أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

تونس وطن يكتب مستقبله بين إرث الماضي وتحديات الواقع


ايمان مزريقي
الكاتب: ايمان مزريقي
في مسار الأمم، تأتي لحظات فارقة تقف عندها الشعوب بين ضجيج التاريخ وأعباء الواقع تلك اللحظات التي تتطلب قرارات مصيرية تعيد صياغة المفاهيم وتحدد طبيعة الطريق إلى الأمام، تونس اليوم واحدة من تلك الأمم التي تجد نفسها أمام منعطف حاسم حيث تتراكم الأسئلة دون إجابات شافية وتتداخل الأزمات مع بعضها البعض في مشهد يتطلب قراءة عميقة تتجاوز سطح الأحداث إلى جوهرها.
فمنذ أن قرر التونسيون رفع أصواتهم ضد القهر والتهميش كان الأمل أن يكون الحاضر بداية لعقد جديد من الكرامة والتنمية والعدالة، ولكن الحاضر الذي نعيشه اليوم يبدو وكأنه انعكاس مُحبط لتراكمات لم يتم تفكيكها بعمق ومسارات أُعيد إنتاجها دون تغيير حقيقي.
الدولة التونسية، التي ولدت ذات يوم على أنقاض نظم استنزفت الموارد وأحكمت قبضتها على الفضاء السياسي لم تستطع التحرر الكامل من إرثها الثقيل، فلقد بقيت البيروقراطية مكبلة بترسبات الماضي عاجزة عن مواكبة التطلعات الجديدة، فالمؤسسات التي كان من المفترض أن تصبح أداة لتحقيق التغيير ظلت أسيرة عقلية محافظة تخشى التجديد وتقاوم كل محاولة للإصلاح الجذري.
ومع غياب رؤية واضحة، باتت الدولة رهينة لنخب متصارعة تنظر إلى السلطة كغنيمة لا كمسؤولية تاريخية وبدلا من أن تكون هذه النخب صمام أمان يدافع عن مصالح الشعب وتحولت إلى أدوات تكرس الانقسامات وتعمق أزمات الثقة بين المواطن ومؤسساته.
الأزمات الاقتصادية التي تتوالى ليست وليدة اللحظة بل هي نتاج بنية اقتصادية هشة استنزفتها سياسات قصيرة النظر، فالاقتصاد التونسي ظل حبيس نموذج يعتمد على تصدير المواد الخام والاستثمارات الخارجية التي لم توجه لخدمة الإنتاج المحلي، ومع التفاوت الكبير بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية تعمقت مشاعر الإقصاء مما خلق بيئة اجتماعية قابلة للانفجار في أي لحظة.
اذ إن غياب استراتيجيات اقتصادية تركز على بناء اقتصاد إنتاجي مستدام جعل البلاد في مواجهة مباشرة مع دوامة من الديون وزاد من هشاشة قدرتها على مقاومة الأزمات العالمية أو التصدي للصدمات الداخلية؛ زفي هذا السياق، أصبح التونسي يشعر أن وعود التغيير ظلت حبيسة الخطابات، بينما الواقع يزداد قسوة يومًا بعد يوم.
وعلى الرغم من أن تونس أظهرت للعالم صورة ثورة ناجحة إلا أن هذا النجاح المبدئي لم يكن معزولا عن تأثيرات خارجية،فالقوى الإقليمية والدولية التي رأت في هذه الأرض فرصة لإعادة تشكيل نفوذها تسابقت لدعم أطراف معينة وإضعاف أخرى.
كما وان الارتباط المفرط بالمساعدات الخارجية وضع البلاد تحت وطأة إملاءات تهدد سيادتها الاقتصادية وأحيانا السياسية، وهنا اتضح أن جزءا كبيرا من معركة تونس لا يدار فقط داخل حدودها، بل على طاولات تُرسم فيها مصائر شعوب بأقلام القوى الكبرى.
هذا وعد التحدي الأكبر الذي يواجه تونس ليس فقط في الاقتصاد أو السياسة بل ايضا في صميم الهوية الجماعية،لالثورة كانت في جوهرها محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها لكنها لم تستطع الإجابة عن الأسئلة الأعمق المتعلقة بكيان المجتمع فكيف يمكن بناء عقد اجتماعي جديد يعكس التنوع ويضمن العدالة للجميع؟
فما حدث خلال السنوات الماضية كان تشرذما للنسيج الوطني حيث تنازعت الأطياف السياسية والمجتمعية على الأولويات بدلا من التوحد حول مشروع جامع، ومع غياب القيادة القادرة على بلورة رؤية وطنية حقيقية ضاع المواطن بين صراعات الأحزاب وصوت الخطابات التي تنادي بالوحدة بينما تمارس عكسها.
فلا يمكن للأمم أن تتقدم دون أن تقف عند لحظات للمساءلة ليس فقط للنخب أو المسؤولين، بل للمجتمع بأسره، ففي هذه اللحظة تطرح أسئلة جوهرية وعميقة جدا حول كيفبة ادارت البلاد؟ من يتحمل مسؤولية الفشل؟ وكيف يمكن تصحيح المسار؟
المحاسبة ليست عقابا، بل هي إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، فهي ضرورة لضمان أن ما حدث لن يتكرر وأن الدولة لن تكون مرة أخرى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية أو خدمة المصالح الضيقة،كما وان هذه اللحظة تتطلب إرادة جماعية تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فالشعب التونسي لم يعد بحاجة إلى وعود أو خطابات رنانة بل إلى أفعال تترجم إلى واقع ملموس يعيد للناس إحساسهم بالكرامة والانتماء.
كذا وان تونس اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن تتوحد الإرادة الوطنية لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة أو أن تستمر في الدوران داخل نفس الدائرة التي أدت إلى الأزمات الحالية.
فالمستقبل يتطلب قيادة شجاعة تعي أن التغيير لا يبدأ من الأعلى فقط بل من القاعدة التي تمثل الشعب، ويتطلب ايضا إدراكا أن التنمية لا يمكن تحقيقها إلا إذا شارك الجميع في صياغة رؤية مشتركة، فالتحديات التي تواجهها كبيرة ومعقدة ولكنها ليست مستحيلة بوجود الإرادة الشعبية التي صنعت الثورة والقادرة على صناعة مستقبل أفضل إذا ما تضافرت الجهود وعملت المؤسسات بنزاهة وشفافية لخدمة الوطن لا لخدمة المصالح الضيقة.
صحيح بان الطريق طويل وشاق، لكنه الطريق الوحيد نحو بناء دولة تعكس طموحات أبنائها، دولة تكون فيها الكرامة حقا لا امتيازا والمحاسبة قاعدة لا استثناء،فتونس ليست فقط وطنا يواجه تحديات بل قصة أمة تسعى لكتابة مستقبل جديد، مستقبل يليق بشعب أثبت مرارا أنه لا يقبل المساومة على حقوقه.
 
تعليقات