ايمان مزريقي |
الكاتب: ايمان مزريقي
على امتداد عقود طويلة، حملت فلسطين ثقلا استثنائيا لا يقاس بحدود الجغرافيا أو تعقيدات السياسة وحدها، بل بمقدار القيم والمبادئ التي تختبر هناك، وتنزف بصمت، ففي كل شبر من هذه الأرض، تنعكس أصداء معركة أبدية بين الحق الذي يتشبث بالحياة، والقوة التي تصر على طمس معالمه، فهي ليست مجرد قضية تحتل مساحة في نشرات الأخبار، بل هي القلب النابض لكل التساؤلات الكبرى التي تواجه إنسانية العالم.
كيف يمكن لشعب أن يعيش عقودا تحت وطأة احتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يحاول انتزاع الروح؟ وكيف يمكن لمجتمع دولي أن يتظاهر بالحياد، بينما يمارس تجاهلا شبه مطلق لهذه المعاناة الممتدة؟ في فلسطين، لا يقاس الزمن بالساعات أو الأيام؛ كل لحظة هي معركة وجود، وكل يوم هو تأكيد جديد على أن الفلسطيني ليس مجرد رقم في معادلات القوى الكبرى، بل كيان حي يقاوم كل محاولات التهميش والإقصاء.
في شوارع فلسطين، يبدو الزمن متوقفا عند مشاهد التهجير والهدم والاعتقال، كيف يمكن للذاكرة أن تتجدد وهي محاصرة بجدران الاحتلال وأبراج المراقبة؟ كيف يمكن للإنسان أن يحتفظ بكرامته حين تصادر أحلامه قبل أن تتحقق؟ لكن الفلسطيني، في مواجهة كل هذا، يثبت أن الذاكرة ليست مجرد سرد للتاريخ، بل هي فعل مقاومة يومي يواجه به محاولات المحو والتزييف.
إن المعادلة التي تواجهها فلسطين تتجاوز بكثير حدود الصراع التقليدي بين احتلال ومحتل، إنها معركة ممتدة على كل الأصعدة: الأرض التي تنهب، والمنازل التي تهدم، والهوية التي تحاصر، ولكن ربما يكون الأخطر من كل ذلك، هو محاولة الاحتلال المستمرة لإعادة تعريف الوجود الفلسطيني، ففي هذا السياق لا ينظر إلى الفلسطيني كإنسان له حقوق طبيعية، بل كعائق أمام مشاريع التوسع الاستيطاني والسيطرة.
وفي المقابل، يبدو العالم وكأنه قد اختار أن يغلق عينيه وأذنيه عن هذا المشهد، فكيف يمكن أن نفسر صمت المؤسسات الدولية التي يفترض أنها حامية للعدالة؟ كيف يمكن لدول تدافع عن حقوق الإنسان في بقاع العالم المختلفة أن تبرر انحيازها الواضح لمنظومة احتلالية تنتهك كل الأعراف؟ هذا الصمت ليس مجرد تقاعس، بل هو في جوهره مشاركة في الجريمة، سواء كان ذلك عبر الدعم المباشر للاحتلال أو عبر الاكتفاء بالإدانات الشكلية التي لا تتجاوز حدود الكلمات.
ورغم ذلك، لا يزال الفلسطيني يرفض أن يكون ضحية صامتة، ففي وجه الجرافات التي تهدم المنازل، يقف بحجره الصغير، وفي وجه الجدران التي تعزل المدن والقرى، يزرع شجر الزيتون، المقاومة هنا ليست خيارا، بل ضرورة وجودية لا يستطيع الفلسطيني أن يقف مكتوف الأيدي أمام محاولات محوه من التاريخ والجغرافيا، هذه المقاومة ليست مجرد فعل عابر، بل هي فلسفة حياة تمارس في كل لحظة، في الزرع والحصاد، في التعليم، في الأغاني الشعبية التي تحكي حكايات قرى محيت من الخريطة لكنها بقيت خالدة في الذاكرة، انها مقاومة تتجاوز الأسلحة وتعيد تعريف الوجود ذاته، وكأن الفلسطيني يقول للعالم: "أنا هنا، ولن أختفي".
لكن السؤال الأبرز يظل قائما: ما الذي يجعل الاحتلال مستمرا طوال هذه العقود؟ هل هي قوته العسكرية وحدها، أم أن منظومة أوسع تدعمه وتوفر له الغطاء السياسي والاقتصادي؟ الحقيقة أن الاحتلال ليس مجرد مشروع استيطاني، بل هو جزء من شبكة معقدة من المصالح الدولية والإقليمية، حيث تختصر القضية الفلسطينية في حسابات ضيقة تراعي النفوذ والمكاسب المادية.
وفي هذا السياق، تبدو الأمم المتحدة وكأنها مسرح للعبث؛ قرارات تصدر، وبيانات تنشر، ومؤتمرات تعقد، لكن على الأرض، ويبقى الفلسطيني وحيدا في مواجهة آلة الاحتلال، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ كيف يمكن لعالم يرفع شعارات الحرية والعدالة أن يسمح بإبقاء شعب بأكمله تحت حصار دائم؟ هل تحولت العدالة إلى سلعة تباع وتشترى، أم أن القضية الفلسطينية فضحت زيف النظام العالمي الذي يدعي حماية حقوق الإنسان؟
ومع ذلك، لا يتوقف الفلسطيني عن طرح أسئلة أكثر عمقا: ماذا يعني أن تفقد أرضك، لكنك تحتفظ بذاكرتك؟ كيف يمكن لشعب أن ينتزع منه كل شيء تقريبا، ومع ذلك يظل متمسكا بحقه في الحياة؟ في كل مرة يجبر فيها على هدم بيته بيديه، أو تقطع جذور شجرة زيتون عمرها مئات السنين، يثبت أن مقاومته ليست فقط مواجهة للآلة العسكرية، بل هي تحدٍّ يومي لمفهوم الاحتلال ذاته.
العالم العربي بدوره لا يبدو بمعزل عن هذا التواطؤ، فبعض الأنظمة اختارت الانسحاب، وأخرى فضلت التطبيع، وكأن القضية الفلسطينية أصبحت عبئا يجب التخلص منه بأي ثمن، ولكن الشعوب العربية رغم كل شيء، ما زالت ترى في فلسطين رمزا للصمود والكرامة، فكيف يمكن لهذه الشعوب أن تعبر عن تضامنها في ظل أنظمة تقمع كل صوت مختلف؟ وهل يكفي التضامن الوجداني إذا كان الواقع على الأرض لا يتغير؟
وفي النهاية، تظل فلسطين صرخة مدوية في وجه العالم، ليست مجرد قضية، بل اختبار مستمر لضمير البشرية، فهل يمكن لعالم يتجاهل كل هذا الألم أن يدّعي الإنسانية؟ وهل يمكن للتاريخ أن يغفر صمتنا الجماعي؟
الفلسطيني اليوم لا ينتظر إجابات، بل يواصل طريقه الذي رسمته الأجيال السابقة، فمن النكبة إلى اليوم، لم يتوقف الفلسطيني عن البناء رغم الهدم، عن الزرع رغم الحصار، وعن الحياة رغم الموت، هذه الأرض التي ترفض أن تخضع، وهذا الشعب الذي يرفض أن ينسى، سيبقيان شاهدين على حقيقة واحدة: الحق قد يقهر لكنه لا يموت.
ايمان مزريقي-تونس
على امتداد عقود طويلة، حملت فلسطين ثقلا استثنائيا لا يقاس بحدود الجغرافيا أو تعقيدات السياسة وحدها، بل بمقدار القيم والمبادئ التي تختبر هناك، وتنزف بصمت، ففي كل شبر من هذه الأرض، تنعكس أصداء معركة أبدية بين الحق الذي يتشبث بالحياة، والقوة التي تصر على طمس معالمه، فهي ليست مجرد قضية تحتل مساحة في نشرات الأخبار، بل هي القلب النابض لكل التساؤلات الكبرى التي تواجه إنسانية العالم.
كيف يمكن لشعب أن يعيش عقودا تحت وطأة احتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يحاول انتزاع الروح؟ وكيف يمكن لمجتمع دولي أن يتظاهر بالحياد، بينما يمارس تجاهلا شبه مطلق لهذه المعاناة الممتدة؟ في فلسطين، لا يقاس الزمن بالساعات أو الأيام؛ كل لحظة هي معركة وجود، وكل يوم هو تأكيد جديد على أن الفلسطيني ليس مجرد رقم في معادلات القوى الكبرى، بل كيان حي يقاوم كل محاولات التهميش والإقصاء.
في شوارع فلسطين، يبدو الزمن متوقفا عند مشاهد التهجير والهدم والاعتقال، كيف يمكن للذاكرة أن تتجدد وهي محاصرة بجدران الاحتلال وأبراج المراقبة؟ كيف يمكن للإنسان أن يحتفظ بكرامته حين تصادر أحلامه قبل أن تتحقق؟ لكن الفلسطيني، في مواجهة كل هذا، يثبت أن الذاكرة ليست مجرد سرد للتاريخ، بل هي فعل مقاومة يومي يواجه به محاولات المحو والتزييف.
إن المعادلة التي تواجهها فلسطين تتجاوز بكثير حدود الصراع التقليدي بين احتلال ومحتل، إنها معركة ممتدة على كل الأصعدة: الأرض التي تنهب، والمنازل التي تهدم، والهوية التي تحاصر، ولكن ربما يكون الأخطر من كل ذلك، هو محاولة الاحتلال المستمرة لإعادة تعريف الوجود الفلسطيني، ففي هذا السياق لا ينظر إلى الفلسطيني كإنسان له حقوق طبيعية، بل كعائق أمام مشاريع التوسع الاستيطاني والسيطرة.
وفي المقابل، يبدو العالم وكأنه قد اختار أن يغلق عينيه وأذنيه عن هذا المشهد، فكيف يمكن أن نفسر صمت المؤسسات الدولية التي يفترض أنها حامية للعدالة؟ كيف يمكن لدول تدافع عن حقوق الإنسان في بقاع العالم المختلفة أن تبرر انحيازها الواضح لمنظومة احتلالية تنتهك كل الأعراف؟ هذا الصمت ليس مجرد تقاعس، بل هو في جوهره مشاركة في الجريمة، سواء كان ذلك عبر الدعم المباشر للاحتلال أو عبر الاكتفاء بالإدانات الشكلية التي لا تتجاوز حدود الكلمات.
ورغم ذلك، لا يزال الفلسطيني يرفض أن يكون ضحية صامتة، ففي وجه الجرافات التي تهدم المنازل، يقف بحجره الصغير، وفي وجه الجدران التي تعزل المدن والقرى، يزرع شجر الزيتون، المقاومة هنا ليست خيارا، بل ضرورة وجودية لا يستطيع الفلسطيني أن يقف مكتوف الأيدي أمام محاولات محوه من التاريخ والجغرافيا، هذه المقاومة ليست مجرد فعل عابر، بل هي فلسفة حياة تمارس في كل لحظة، في الزرع والحصاد، في التعليم، في الأغاني الشعبية التي تحكي حكايات قرى محيت من الخريطة لكنها بقيت خالدة في الذاكرة، انها مقاومة تتجاوز الأسلحة وتعيد تعريف الوجود ذاته، وكأن الفلسطيني يقول للعالم: "أنا هنا، ولن أختفي".
لكن السؤال الأبرز يظل قائما: ما الذي يجعل الاحتلال مستمرا طوال هذه العقود؟ هل هي قوته العسكرية وحدها، أم أن منظومة أوسع تدعمه وتوفر له الغطاء السياسي والاقتصادي؟ الحقيقة أن الاحتلال ليس مجرد مشروع استيطاني، بل هو جزء من شبكة معقدة من المصالح الدولية والإقليمية، حيث تختصر القضية الفلسطينية في حسابات ضيقة تراعي النفوذ والمكاسب المادية.
وفي هذا السياق، تبدو الأمم المتحدة وكأنها مسرح للعبث؛ قرارات تصدر، وبيانات تنشر، ومؤتمرات تعقد، لكن على الأرض، ويبقى الفلسطيني وحيدا في مواجهة آلة الاحتلال، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ كيف يمكن لعالم يرفع شعارات الحرية والعدالة أن يسمح بإبقاء شعب بأكمله تحت حصار دائم؟ هل تحولت العدالة إلى سلعة تباع وتشترى، أم أن القضية الفلسطينية فضحت زيف النظام العالمي الذي يدعي حماية حقوق الإنسان؟
ومع ذلك، لا يتوقف الفلسطيني عن طرح أسئلة أكثر عمقا: ماذا يعني أن تفقد أرضك، لكنك تحتفظ بذاكرتك؟ كيف يمكن لشعب أن ينتزع منه كل شيء تقريبا، ومع ذلك يظل متمسكا بحقه في الحياة؟ في كل مرة يجبر فيها على هدم بيته بيديه، أو تقطع جذور شجرة زيتون عمرها مئات السنين، يثبت أن مقاومته ليست فقط مواجهة للآلة العسكرية، بل هي تحدٍّ يومي لمفهوم الاحتلال ذاته.
العالم العربي بدوره لا يبدو بمعزل عن هذا التواطؤ، فبعض الأنظمة اختارت الانسحاب، وأخرى فضلت التطبيع، وكأن القضية الفلسطينية أصبحت عبئا يجب التخلص منه بأي ثمن، ولكن الشعوب العربية رغم كل شيء، ما زالت ترى في فلسطين رمزا للصمود والكرامة، فكيف يمكن لهذه الشعوب أن تعبر عن تضامنها في ظل أنظمة تقمع كل صوت مختلف؟ وهل يكفي التضامن الوجداني إذا كان الواقع على الأرض لا يتغير؟
وفي النهاية، تظل فلسطين صرخة مدوية في وجه العالم، ليست مجرد قضية، بل اختبار مستمر لضمير البشرية، فهل يمكن لعالم يتجاهل كل هذا الألم أن يدّعي الإنسانية؟ وهل يمكن للتاريخ أن يغفر صمتنا الجماعي؟
الفلسطيني اليوم لا ينتظر إجابات، بل يواصل طريقه الذي رسمته الأجيال السابقة، فمن النكبة إلى اليوم، لم يتوقف الفلسطيني عن البناء رغم الهدم، عن الزرع رغم الحصار، وعن الحياة رغم الموت، هذه الأرض التي ترفض أن تخضع، وهذا الشعب الذي يرفض أن ينسى، سيبقيان شاهدين على حقيقة واحدة: الحق قد يقهر لكنه لا يموت.
ايمان مزريقي-تونس