أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

ماهية الفساد السياسي!

هديل ياسين
هديل ياسين
الكاتب:هديل ياسين
الفساد، في جوهره، يمثل انحرافاً عن القيم والمبادئ التي تُفترض في أي نظام سياسي أو اجتماعي سليم، إذ يعكس حالة من الخروج عن الاعتدال إلى سلوكيات تتنافى مع مفاهيم العدالة والنزاهة والشفافية. وتشكل مظاهره، سواء كانت في شكل رشوة أو محسوبية أو استغلال النفوذ ونهب المال العام، علامات واضحة على عمق الأزمة التي يعاني منها البناء الإداري والسياسي. وتتعدد أنواعه لتشمل المالي والإداري والأخلاقي والسياسي والثقافي والقضائي، كما تتسع دوائره لتشمل الفساد المحلي والدولي، الصغير والكبير، مما يجعله ظاهرة مركّبة ومتداخلة الأبعاد. أما على صعيد آثاره، فإن الفساد لا يقتصر على إعاقة النمو الاقتصادي وتآكل موارد الدولة، بل يتعدى ذلك إلى إضعاف القيم المجتمعية، وتفكيك الثقة بين المواطن والدولة، وتهميش الكفاءات، وفتح المجال أمام أنماط من الطغيان والاستبداد.
ويتجلى الفساد السياسي بوصفه أخطر هذه الأشكال، كونه يشمل قمة الهرم السلطوي، ويُعطل الحياة السياسية من خلال احتكار القرار، والتلاعب بالانتخابات، وتهميش دور المواطن، ويُنتج بيئة تتسم بانعدام المساءلة واستغلال القانون لمصالح خاصة. ومع أن مسببات الفساد السياسي ترتبط غالباً بخلل في المناخ السياسي وغياب المساءلة، فإن مواجهته تتطلب إصلاحاً جذرياً لمؤسسات الدولة، وتكريس الشفافية، وإعلاء قيم الديمقراطية، وإجراء انتخابات نزيهة، وتعزيز الثقافة المجتمعية الرافضة لهذه الممارسات. ومن هنا، فإن إنهاء حالة الخلل لا يكون فقط من خلال القوانين، بل بإعادة بناء العلاقة بين السلطة والمجتمع على أساس من النزاهة والمشاركة والعدالة.
ويُعدّ الفساد السياسي من أبرز الظواهر التي تُهدّد استقرار الدول وتُقوّض أسس الحكم الرشيد، إذ يُمارَس من داخل أجهزة الدولة، ويؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين بالمؤسسات الرسمية، ويُضعف قدرة النظام السياسي على تحقيق العدالة والتنمية. تنبع خطورة هذا النوع من الفساد من كونه يتغلغل في بنية السلطة، حيث تُستغل المناصب العليا والنفوذ الإداري من أجل تحقيق مصالح خاصة أو تعزيز سلطة مجموعات معينة، على حساب الصالح العام والمبادئ الديمقراطية. وغالباً ما يتحول هذا الفساد من ممارسة فردية إلى ظاهرة مؤسسية متجذرة، تُنتج أنظمة تقوم على الزبائنية والمحسوبية وتُقصي الكفاءات وتُهمّش دور المواطن. لذلك، فإن تحليل هذه الظاهرة ليس فقط ضرورة أكاديمية، بل خطوة أساسية نحو فهم الإخفاقات المزمنة في البنى السياسية والاجتماعية، وكيفية معالجتها ضمن رؤية إصلاحية شاملة.
الفساد السياسي يتخذ أشكالاً متعددة، منها ما هو مباشر كالرشوة وتزوير الانتخابات، ومنها ما هو غير مباشر كمنح المناصب بناءً على الولاءات الشخصية أو الحزبية، وتغليب المصالح الخاصة في صياغة السياسات العامة. في هذا السياق، يتحول القرار السياسي إلى أداة لخدمة نخبة ضيقة، تتحكم بمصير الدولة وتُعيد توزيع الموارد وفق اعتبارات غير عادلة. وتكمن خطورة ذلك في تجريد المؤسسات من مضمونها القانوني، وتحويلها إلى أدوات طيّعة بيد أصحاب النفوذ، ما يُفقد الدولة حيادها وقدرتها على ضبط التوازن بين القوى المجتمعية المختلفة.
تتعدد الأسباب التي تُنتج هذا النوع من الفساد، وتتمثل أساساً في ضعف الرقابة وغياب الشفافية وتضخّم السلطة التنفيذية على حساب باقي السلطات. كما يُساهم غياب حرية التعبير وانكماش الفضاء العام في تكريس ممارسات الفساد، حيث تُغيب المحاسبة وتتضاءل فرص النقد والمساءلة. من جهة أخرى، فإن ضعف الثقافة السياسية لدى شرائح واسعة من المواطنين، وسلبيتهم في الشأن العام، تُتيح الفرصة لاستمرار النخب الفاسدة في الحكم دون مساءلة فعلية. وتُضاف إلى ذلك طبيعة النظام السياسي الذي قد يُكرّس المركزية المفرطة والاحتكار في اتخاذ القرار، ما يفتح المجال أمام شبكات مصالح معقّدة يصعب تفكيكها.
لا يقتصر أثر الفساد السياسي على الجانب الإداري أو المالي، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي نفسه، حيث يُعزز مناخ اللامساواة ويُغذّي الإحباط واليأس، ويُساهم في خلق فجوة بين المواطنين والدولة. كما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية من خلال سوء إدارة الموارد، وإضعاف فرص الاستثمار، وتراجع الثقة في النظام المالي والقانوني. كل ذلك ينعكس سلباً على فرص التنمية المستدامة، ويحول دون بناء مجتمع عادل ومنتج. كما قد يُفضي استمرار هذا الفساد إلى أزمات سياسية حادة، تدفع الناس إلى الاحتجاج أو العزوف التام عن المشاركة السياسية، ما يُعمّق حالة الانفصال بين الدولة ومواطنيها.
التصدي لهذه الظاهرة يتطلب رؤية متكاملة تبدأ بإرادة سياسية صادقة لإجراء إصلاحات جذرية في بنية الدولة ونظامها السياسي، ومن الضروري إعادة الاعتبار إلى مبدأ الفصل بين السلطات وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة القضائية والتشريعية، وتعزيز دور الإعلام المستقل والمجتمع المدني في كشف الفساد وفضحه. كما يجب إصلاح القوانين المتعلقة بالانتخابات وتمويل الأحزاب السياسية وتعيين المسؤولين، بحيث تُصبح هذه العمليات خاضعة لمعايير الشفافية والكفاءة، لا الولاء والمصلحة. وبجانب البُعد القانوني، لا بد من العمل على ترسيخ قيم المواطنة والنزاهة لدى الأفراد، عبر المناهج التربوية والأنشطة التوعوية، بما يُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على أسس من الثقة والحقوق المتبادلة.
إنّ مواجهة الفساد السياسي لا يمكن أن تكون عبر إجراءات سطحية أو شعارات فضفاضة، بل تتطلب مشروعاً وطنياً جامعاً يستند إلى العدالة والمساواة ويهدف إلى إعادة بناء الدولة من الداخل. فاستمرار الفساد لا يعني فقط تعثّر التنمية، بل يُهدّد وجود الدولة ذاتها على المدى البعيد. إنّ النهوض بمجتمعاتنا يبدأ من لحظة الاعتراف بجذور الأزمات، والتعامل معها بشجاعة وشفافية. فلا إصلاح حقيقي ممكن في ظل بيئة سياسية فاسدة، ولا ديمقراطية قابلة للحياة دون مؤسسات نزيهة تُؤمن بالمساءلة وتحتكم إلى إرادة الناس، لا إلى نفوذ المتنفذين.

 

تعليقات