أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الحركة الوطنية الفلسطينية وانتظار الفرج

رائد محمد الدبعي
رائد محمد الدبعي
الكاتب: رائد محمد الدبعي 
رئيس قسم العلوم السياسية/ جامعة النجاح الوطنية 
أسهمت نتائج الحرب العالمية الأولى بتقدم القوى الديمقراطية الاجتماعية واليسار الاصلاحي في أوروبا مؤقتا، وإلى زوال أنظمة ملكيّة كبرى مثل آل هوهنتسولرن في ألمانيا، وآل هابسبورغ في النمسا-المجر، وإلى انهاير الدولة العثمانية ، إلا أن الاخفاقات الاقتصادية، وغياب البرامج القادرة على تقديم بدائل مقنعة للناس بعد نحو عقد، ساهم في ارتداد المراكب للضفة اليمينية القومية، وبروز قوى راديكالية متطرفة قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية، فيما قادت نتائج الحرب العالمية الثانية إلى بروز تيار الاشتراكية الديمقراطية من جديد، وبروز ما يعرف " بالعهد المجيد " الذي قادت به الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية بلدانها لما يربو على ثلاثين عاما، من خلال تقديم برامج واضحة واضحة، وبدائل ملموسة، قامت أولا على مراجعات أيدلوجية قادت للتحول من الاشتراكية العقائدية إلى الإشتراكية الإصلاحية، عبر ما يعرف ببرنامج " باد غودسبرغ "، وعبر برامج اجتماعية وسياسية واقتصادية قامت على دولة الرفاه، وكبح البطالة، وتبني اقتصاد مختلط، يحافظ على رقابة عامة على القطاعات الاستراتيجية دون الغاء المنافسة الإقتصادية، وضرائب تصاعدية وتمويل تضامني، وبرامج تقوم على المساواة الجندرية، والعدالة الإجتماعية، وتوسيع قاعدة العمال والنقابات، واستثمار أموال خطة مارشال لإعمار ملموس، وبناء تحالفات قاعدية مع المجتمع المدني، وهو الأمر الذي قاد إلى تقدم القوى الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، بعد نجاحها في ترجمة تلك البرامج إلى سياسات ملموسة، نجحت باستقطاب الفقراء والعمال والطبقة الوسطى عموما، مما قاد إلى تراجع مختلف القوى اليمينية المتطرفة، وهناك أمثلة اخرى على تقدم اليمين وتراجع اليسار، كما حصل في الولايات المتحدة عام 1980، مع مجيء ريغان، وعودة ترامب للحكم عام 2025، وفوز بولسونارو برئاسة البرازيل عام 2018، وبهارتيا جاناتا في الهند عام 2014، وحركة الخمس نجوم في ايطاليا، وتنامي اليمين الشعبوي في المانيا ليصبح القوة الثانية في الانتخابات الأخيرة 2025، من خلال تبني اقتصاد السوق، ورفع شعار محاربة الفساد، وتحقيق الأمن، والمحافظة على القيم الدينية والعائلية، مع وعود بأي يجني المواطن نتائج ملموسة، وبناء تحالفات مع رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى المتضررين من الضرائب . 
ما تريد السطور السابقة قوله أن الحصول على ثقة المواطنين وشرعية تمثيلهم لا يكون من خلال فشل الخصم وحده، ولا من خلال رفع شعارات على تنوعها وجمالها ونقائها، ولا من خلال التغني بأمجاد الماضي، أو التمسك بأهداب امتلاك الشرعية، التي تتاَكل مع مرور الزمن كغيرها من القيم، إنما من خلال تقديم حلول مقنعة للناس، والتقدم ببرامج ملموسة ومبسطة، تعالج جذور الأزمات، وتبني جسورا من التحالفات مع القوى المجتمعية المؤثرة. 
إن ما تمر به منطقة الشرق الأوسط عموما، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص من تغيرات كبرى، وتحولات استراتيجية، وكذلك الماَلات الكارثية لعملية السابع من أكتوبر – حتى بتصريح عددا من قيادات حماس- على القضية الفلسطينية عموما، وعلى مقومات صمود شعبنا، واَليات التعاطي الإسرائيلي مع القضية الفلسطينية، يشبه إلى حد كبير، تلك الظروف التي ساهمت بتقدم قوى وتراجع أخرى في محطات مختلفة خلال محطات تاريخية فاصلة، وكذلك ماَلات الحرب الاسرائيلية الايرانية وانعاكاساتها على خارطة القوى بالمنطقة ، وتتطلب من الحركة الوطنية الفلسطينية تبني سياسات ترتقي لتلك التحديات، إلا أن اللافت بالأمر، بأن منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح، واللذان يشكلان عمليا عماد الحركة الوطنية الفلسطينية، وكذلك مختلف القوى والفصائل الوطنية والاسلاموية على الساحة الفلسطينية، يتعاملون مع تلك التغيرات بمنطق القضاء والقدر، والإنتظار المؤجل إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، دون أن مبادرة، أو تقديم برامج، أو حتى محاولة اتخاذ خطوات من شأنها ان تساهم في تقليل الخسائر، إذ أن الأوضاع الراهنة من عمر القضية الفلسطينية، والتي قد تكون هي الأخطر منذ نكبة عام 1948، وإصرار حكومة اليمين الديني في إسرائيل على حسم الصراع من خلال استغلال الفرصة التاريخية المواتية، يتطلب القيام بخطوات واقعية، وتقديم برامج مقنعة ذات تأثير ملموس على المواطن، والطبقات المجتمعية المتنوعة، بما في ذلك الفقراء والطبقة الوسطى، إذ أن أبسط القضايا التي ظهرت خلال الفترة الماضية، بما في ذلك أزمتي الوقود وغاز الطهي، أثبتت حجم الخلل المجتمعي، وغياب القوى المجتمعية والرسمية التي من واجبها حماية المواطنين، وتنظيم شؤون حياتهم وقت الأزمات، كما كشفت النقاب عن حجم الهوة بين المواطن وصناع القرار، وكشفت غياب خطة وطنية لإدارة الأزمات الوطنية . 
أمام منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح فرصة مواتية لتحويل هذه المأساة إلى فرصة وطنية جامعة، عبر استثمار اللحظة التاريخية، من خلال تحول برامجي، يقوم على سياسات واقعية، وقابلة للتطبيق، وقادرة على إعادة ثقة المواطن، واستثمار رأس المال الإجتماعي، واستثمار طاقات شعبنا الفلسطيني بالوطن والشتات، وتبني أدوات اتصال حديثة ومؤثرة وملموسة بالجماهير، وإعادة بناء تحالفات اجتماعية مع القطاعات المختلفة، لا سيما العمال، والمزارعين، الذين ان الأوان لانتخاب نقابات تمثلهم بحق، وتنطلق من بين صفوفهم، ودعوة الكل الفلسطيني للمشاركة في رسم التوجهات الوطنية المستقبلية، عبر إشراك شعبنا بالشتات، واستثمار طاقاته البشرية في كل أماكن تواجده، فعلى صعيد منظمة التحرير الفلسطينية، لا بد من مغادرة المراوحة بالمكان، وهذا لا يعني تبني سياسات شعبوية، او غير مدروسة النتائج، إنما يعني القيام بما هو ممكن، ومؤثر وفاعل، ولعل من بينه بناء المجلس الوطني الفلسطيني بشكل يجعل منه ممثلا حقيقيا لقطاعات شعبنا الفلسطيني، بكل مكوناته، وفصائله، وقطاعاته، ونخبه من النساء والرجال، وهو الأمر الممكن من خلال تنظيم انتخابات حقيقية وشفافة لمكوناته الممثلة، بما في ذلك الاتحادات والنقابات والمؤسسات القطاعية، وبناءه على أساس مؤسسي لا زبائني، وعلى أساس القدرة لا الولاء، وعلى قاعدة الانفتاح والاستنارة، لا الانغلاق والعلاقات الفردية والفهلوة، على منظمة التحرير، وهي تمتلك الشرعية والقدرة أن تنفتح على كل أبناء شعبها، لتظل ممثلا شرعيا ووحيدا لهم، في كل محاضرة عن منظمة التحرير الفلسطينية، أسأل طلبتي في مساق الدراسات الفلسطينية عن أسماء أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بالكاد يستطيعون تسمية إسم أو اثنين بأفضل الحالات، المشكلة ليست بالجيل، إنما بالمؤسسة الغائبة، والنهج الفردي، وغياب الأثر، وبتغييب أهم مؤسسات الوطن عن دورها القيادي، على منظمة التحرير الفلسطينية أن تقدم برامج اجتماعية وسياسية واقتصادية ملموسة، يشعر بها ابن المخيم والريف والمدينة، يشعر بها أبناء مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، الذين يمارس بحقهم إبادة جغرافية تقوم على إنهاء المخيم كطبوغرافيا، وذاكرة، وحيز مكاني محرض على الاحتلال، ومجدد لحق العودة، عليها أن تقدم برنامجا عمليا لأهالي قطاع غزة، يقوم على وحدة التمثيل، ووحدة السلاح، ووحدة القرار، وتصور لإعادة البناء، تماما كما فعلت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وحازت على ثقة الجماهير لثلاثين عاما بعدها، ليس مطلوب من منظمة التحرير اجتراح المستحيل، ومتفهم جدا حجم التغيرات والتحديات التي تعتري المنطقة والقضة الفلسطينية، ما هو مطلوب هو مغادرة مقاعد المتفرجين نحو المبادرة والقيادة وملامسة احتياجات المواطنين، وأخذ دورها الطبيعي باعتبارها ممثلا شرعيا ووحيدا لشعبنا، لأن المواطن الذي لا يجد لقمة الخبز، ولا يستطيع العودة لبيته، ولا يستطيع توفير أنبوبة الطهي، لا يمكن إقناعه بأي شرعية لا توفر له كرامته ولقمة خبزه النظيفة. 
حركة فتح أيضا أمامها مسؤولية تاريخية في ظل الظروف الإستثنائية، وفي ظل التحولات المرتقبة في المنطقة، ففتح التي نبتت كزهرة في صحراء قاحلة، هي عصب الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى عاتقها تقع مسؤولية تصليب الأداء، وتعزيز صمود المواطن، وهو الأمر الذي يتطلب من الحركة تبني برامج اجتماعية وسياسية واقتصادية، وقيادة المقاومة الشعبية الفلسطينية في الميدان، كما أن حركة فتح بحاجة ماسة لإعادة بناء بيتها الداخلي، وجمع أبناءها، بقانون المحبة، والحوار، وسعة الصدر، والأبواب المفتوحة، ولملمة صفوفها وفقا لنظامها الداخلي، وعبر مؤسساتها الحركية، لأن حركة فتح، بتأثيرها، وماَلات ما يجري داخلها هي شأن فلسطيني عام ، يتجاوز حدود البيت الفتحاوية الداخلي. 
ختاما، من قال أن عدالة قضيتنا وحدها قادر على الإنتقال بشعبنا إلى بر الأمان عليه مراجعة التاريخ، ومن يعتقد أن الصمت والترقب والانتظار سيقود نحو مرور هذه الغيمة السوداوية عليه أن يفتح عينيه ليرى ما يحدث في القدس، وما يجري من تغييرات جغرافية في الضفة الغربية، ما يصرح به قادة اليمين المتطرف ويمارسونه يوميا، فالتاريخ كان في العديد من الحالات مقبرة للحق، والعدالة، والصمت، والتردد، وما يريده الاحتلال واضح جلي لمن يرى النور والشمس، " أرض أكثر لليهود، وعرب أقل عليها " .

 

تعليقات