غزة “أرض لا تموت”



فلسطين24: “أرض لا تموت” هو كتاب صادر عن دار نلسن هذه السنة، وفيه يوميات صحافي في غزة، وقد جُمعت في 119 صفحة. وكما يقول في المقدمة: “أنا منيب أبو سعادة صحفي فلسطيني أقطن في بلدة بني سهيلا شرق خانيونس جنوب قطاع غزة بعد أن تعرّضت منطقتي للقصف العنيف.” 
اليوميات لا تتحدث عن يوم بيوم، لكنها تتناول موضوعات عديدة عاشها أبو سعادة كغزي، وهي تشبه أوضاع معظم مَن في قطاع غزة. أمّا الشأن الخاص به وبشريحة معيّنة من الغزيين، فهو عمله الصحافي. 
منيب متزوج، وله ثلاثة أطفال، كبيرهم سعد (7 أعوام)، وأوسطهم سلمى (5 أعوام)، وصغيرهم يَزَن (4 أعوام)، ويكتب عنهم كثيراً في أسطره، ويؤكد أنهم الأمل: “من أجلهم أواصل، من أجلهم أقاوم” (ص 53)، وفي مطلع الكتاب، يحدّث نفسه كما يبدو، كما يحدّث القارئَ فيما بعد عن الرعب الذي لم يجد له حلاً. فكيف سينزعه من قلوب أطفاله؟ “كنت أرى الخوف في أعينهم، أسمع أنفاسهم المرتجفة في الليل، أشعر بأيديهم الصغيرة وهي تتشبث بي كلما سمعوا صوت انفجار قريب. كنت أبحث عن كلمات تطمئنهم، لكنني كنت أعلم أنهم، رغم صغر سنهم، يدركون الحقيقة التي لا أستطيع إخفاءها” (ص 10). 
وهو يخاف على أولاده وزَوْجِهِ ونفسه، وعلى بقية الناس. ويجيب عن سؤال لطالما راود الناس عن غزة؛ لماذا هذا الإصرار على غزة؟ لماذا هذا الصمود؟ فيقول: “غزة ليست مجرد مكان على الخريطة، ليست مجرد مدينة عانت من الحصار والحروب، وليست مجرد قضية سياسية تُناقش في المؤتمرات والبيانات الصحفية. غزة هي قصة صمود لا مثيل لها، قصة شعب يرفض أن يُمحى، قصة أرض تأبي أن تموت” (ص 11). 
ومع ذلك، فثمة لحظات لم تكن سهلة على منيب وعائلته، كما على الآخرين في غزة، فقرروا النزوح بفعل القصف اليومي، والخوف الذي لم يعد يغادر قلوب الناس، حتى إنهم ربما تعايشوا معه، فلم يعد شعوراً غريباً، وربما العكس هو الصحيح، إذ بات شعور الأمان هو الذي يستغربه الناس في عيشهم: “كانت زوجتي تقول لي: ‘علينا أن نغادر‘ كنت أقول لها: ‘نحن بخير، لن يصل إلينا شيء‘ لكنني كنت أكذب. كنت أقولها لنفسي قبل أن أقولها لها، وكأنني أحاول أن أتمسك بوهم الأمان الذي لم يعد موجوداً” (ص 17). 
وفعلاً، رحلت العائلة من مكانها، كما يوضح منيب، بعد ليلة طويلة من الغارات العنيفة، فجمعوا ما أمكن حمْله من ملابس وأطعمة وأدوية، وبدأت رحلتهم في النزوح: “هكذا بدأت رحلتنا، رحلة لا نعرف أين ستنتهي، ولا كيف سنصل إلى وجهتها الأخيرة” (ص 18)، وامتدت الرحلة من مكان إلى آخر، وكانت الخيمة هي المأوى فوق أرض تهتز من هول التفجيرات، وأماكن ليس فيها ماء ولا كهرباء، والطعام قليل وغير كافٍ. وفي كل مكان جديد، يكتب منيب: “كان أطفالنا يفقدون المزيد من براءتهم. سعد الذي كان بالكاد يبلغ السابعة من عمره، بدأ يتحدث عن الحرب وكأنه رجل كبير. سلمى كانت تبكي بصمت، لا تفهم لماذا علينا أن نرحل كل مرة. أمّا يزن، فقد كان يتشبث بي في كل لحظة، يخشى أن نفترق وسط الفوضى. كان الألم يزداد مع كل وداع، ومع كل خطوة نحو المجهول” (ص 21). وفي وضع يشبه الواقع الذي يعيشه في غزة، كانت الخيمة تدل على هول الأمور: “نحن لا نعيش في هذه الخيام.. نحن فقط نحرس انتظارنا. نحن نعد الأيام بعدد المرات التي لم نمت فيها” (ص 28). 
وكذلك الجوع الذي فتك بأجساد الغزيين في ظل حصار خانق، ممتد منذ أعوام طويلة، ومشدَّد خلال أشهر الحرب القاسية، فالجوع كما يقول منيب “تحول إلى جزء من حياتنا اليومية. كنا نعلم أن هناك أناساً آخرين في أماكن أُخرى في العالم لا يعرفون عن المعلبات شيئاً. لديهم الخيار بين طعام طازج ومتنوع، بينما نحن نعيش في معركة للبقاء على قيد الحياة مع علب الفول والشوربات الجاهزة. هذا الواقع كان يجعلنا نشعر بالعجر، وكأننا محاصرون في مكان لا توجد فيه إمكانيات للعيش بحرّية أو كرامة” (ص 34-35). 
والملفت في هذا الكتاب محتوى تكرَّرَ بصيغ متعددة، وهو الصبر والصمود، والإيمان بإمكان تجاوُز الوضع الكارثي في هذا الحيز من فلسطين. وبحسب الكتاب، فإن منيب كان يكمل تعليمه في ظل الحرب، فهو طالب في العلاقات العامة والإعلام في جامعة غزة، وكان يتابع تحصيله عبر الإنترنت، عندما يتوفر، وكانت ساعات الدراسة، على الرغم من صعوبتها تحت القصف وانقطاع الشبكة، وإمكان ضياع جهد ساعات بسبب ذلك، مساحةَ مقاومةٍ شخصية وعائلية ووطنية بالنسبة إلى منيب: “كنت أقول لنفسي أنني في مقاومتي الأكاديمية، كما في مقاومتي اليومية، لا أستسلم. أنا جزء من هذا العالم الذي يرفض أن يستسلم للظلم، وأنا جزء من هذا الشعب الذي لا ينحني مهما كانت الصعاب. في تلك اللحظات، كنت أدرك تماماً أن المقاومة ليست فقط الحروب المسلحة، بل هي في الصمود أمام الحياة نفسها، في التمسك بما تبقّى من الأمل وسط كل التحديات” (ص 58). 
كذلك، فإن صاحب الكتاب يعمل صحافياً، ويغطي الحرب المستمرة منذ نحو عشرين شهراً: “الصحافة في زمن الحرب ليست مجرد نقل للأخبار، بل هي رسالة تنطلق من قلب المعاناة إلى العالم، شهادة على الحياة في ظروف لا تشبه أي شيء آخر.” وهو الكاتب للكلمات السابقة، ويعلم جيداً أن استهدافَه ممكن، لمجرد أنه يعمل في مهنة استُشهد من أفرادها أكثر من 200 صحافي خلال الحرب المستمرة: “كنت أعرف أن قلمي هو سلاحي، وأن كاميرتي هي عيني التي تنقل الحقيقة، لكنني كنت أدرك في الوقت ذاته أن هذا السلاح قد يكون سبباً في استهدافي في أي لحظة” (ص 37)، ويصف في حديثه عن مهنته الأماكن في غزة، وكيف تغيرت ودُمرت واحترق فيها الشجر. 
وعن الكتابة يقول منيب: “لم نكن نكتب فقط لتغطية الأحداث، بل كنا نكتب عن الحياة التي لا يسمعها أحد، نكتب عن الحرب التي لا تتوقف، عن الألم الذي لا ينتهي، عن الخوف الذي يسكن كل زاوية في حياتنا” (ص 43)، ويضيف في موضع آخر: “كنت أستمر في العمل لو أن التوقف عن الكتابة والتوثيق كان غير ممكن. الكتابة كانت طريقتي في البقاء على قيد الحياة، وفي مقاومة النسيان الذي كان يهدد جميع ما كنا نعيشه” (ص 70). وعن الموت يقول: “لم يكن الموت سوى لحظة عابرة، تليها حياة جديدة تولد من بين الأنقاض، حياة ترفض الاستسلام وتعلّمنا أن لا شيء يذهب سدى” (ص 79). 
بعض الصفحات في هذا الكتاب تُفْقِدُ القارئ قدرتَه على إدراك الواقع، وإدراك مدى الألم الذي يشعر به الناس في غزة، كالأسطر التي تحدّث فيها عن البرد، ووجْه طفلته سلمى المحمر من شدة الصقيع، وضعْف قدرته على تدفئتها. هذه الأسطر كفيلة بأن تُشْعِرَ أي إنسان بالضعف، ليس لدقة الوصف، أو جودة النص الأدبية، فهذا أمر فيه نظر وحديث يطول، إنما بسبب شكل الكتاب الذي قُدِّمَ فيه، والتقسيم إلى فصول وعناوين لكل فصل، والعناوين الفرعية للفصول، لكنْ هناك أمرٌ أساسي ميّز الكتاب، وهو الصدق؛ فلا توجد جملة في الكتاب إلاّ وتؤكد شعور العذاب أو القهر أو الألم في لحظة الكتابة، وعدم مبالغته في وصف الأمور، بالعكس، فبعض الأحداث، عن طريق متابعة أخبار العدوان على غزة، تعطي انطباعاً فحواه أن الكاتب لم يقل كل شيء، وكان هناك مزيد من الكلام والوصف. 
ربما كان الأفضل عدم وصف الكتاب بأنه رواية كما وُضِعَ على غلافه، فالمكتوب ليس خيالاً صنعه الكاتب، وصيغة الكتابة توحي بأنها يوميات، ولا سيما أن عناصر كثيرة للرواية، وإن توفرت، فهي لم تكتمل. والكتابة الموجودة هي حقائق عاشها ويعيشها نحو مليونَي شخص حتى اليوم في قطاع غزة، وهذا ما أشار إليه الكاتب أكثر من مرة. ما كتبه منيب أبو سعادة يمكن أن يُضْرَبَ مثالاً ويُقَاس على الجميع في غزة، فلا أحد هناك لا يعاني، وليس بين الساكنين مَن لم يفقد أحداً، إنما جميعهم فقدوا، ويبقى أن نشعر، نحن الذين في الخارج، بأننا أيضاً نفقد في كل معذَّب هناك، ليس شخصاً أو لحماً ودماً، إنما مِن أرواحنا وأنفسنا. 
عن المؤلف: 
أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت. 
عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية 

 

تعليقات