أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

كمائن الموت: : غزة تحت نيران الجوع والخذلان


فلسطين24: غزة- تقرير:محمد نعيم
في غزة، لم يعد الموت يأتينا من السماء فقط. بات ينتظرنا أيضًا على قارعة الطريق، عند شاحنة مساعدات، أو على رصيف في طابور خبز، أو قرب خيمة بانتظار كيس دقيق. الجوع لم يعد مجرد معاناة، بل تحوّل إلى فخ قاتل، والمساعدات الإنسانية التي كان يُفترض أن تنقذ الأرواح، أصبحت في كثير من الحالات كمائن موتٍ معلنة. 
ما يحدث في غزة لا يُشبه المجاعات التقليدية في مناطق الصراعات، بل هو تجويع ممنهج، مدروس ومقصود. يجري ببطء لا يثير الضجيج، لكنه يُسقط الناس بصمت، ويكسر ما تبقى من كرامة بشرية وكيان مجتمعي. 
في كل صباح، يخرج الآلاف إلى نقاط توزيع المساعدات، لا لأنهم يثقون بوجود ما يسدّ رمقهم، بل لأنهم لم يعودوا يملكون خيارًا آخر. أطفال يحملون أواني فارغة، نساء يضعن صور الشهداء على صدورهن خوفًا من أن يُقتل أبناؤهن وتُنسى وجوههم، وشيوخ بالكاد يسندون أرجلهم المتهالكة… كلهم يجمعهم جوعٌ لا يُرحم، وخذلانٌ لا يُغتفر. 
لكن هؤلاء لا يقفون في طوابير أمل… بل في طوابير خطر.
المساعدة التي تقتل 
تتحوّل مواقع توزيع المساعدات إلى نقاط استهداف مباشر من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في مناطق مثل طريق نتساريم ومحيط النقاط الأميركية. في الأيام الماضية فقط، قُتل العشرات برصاص القناصة وبشظايا القذائف المدفعية أثناء تجمّعهم للحصول على الطعام. 
النازحة "أم رائد"، والتي فقدت زوجها في قصف على إحدى نقاط التوزيع، قالت لفلسطين 24:
"ذهب ليجلب دقيقًا… لم يعد. عاد إلينا في كيس بلاستيكي أبيض. لم يكن يحمل كيس دقيق، بل شهادة وفاة." 
وفي شهادة أخرى، يقول "مصطفى"، وهو شاب فقد ثلاثة من أقاربه قرب شاحنة مساعدات: 
"لم نعد نفرق بين شاحنة طحين وشاحنة ذخيرة. كل الطرق في غزة تؤدي إما إلى القبر أو إلى مزيد من الذل."
غزة التي يُعاد تشكيلها بالجوع 
ما يجري ليس فقط استهدافًا ماديًا، بل هدم للبنية الأخلاقية والاجتماعية. الجوع يغيّر ملامح الناس، يجعل الأب يصرخ على أطفاله لأنه لا يملك ما يطعمهم، ويدفع الشباب إلى الاشتباك على كيس أرز أو علبة فاصولياء. لا لأنهم لصوص، بل لأنهم جائعون يائسون. 
انهيار القيم بات واضحًا…
ليس لأن الناس تغيروا، بل لأن العالم تركهم يتعفنون على حافة الحياة. 
في بعض المناطق، بدأ الناس يقتتلون على المساعدات، أو يعقدون صفقات مهينة لبيع ما يحصلون عليه بثمن لا يساوي شيئًا… فقط ليبقوا أحياء ليوم آخر.
الأمم المتحدة تُقر: الجوع يُستخدم كسلاح 
في بيان صدر قبل يومين، حذّرت وكالة الأونروا من كارثة إنسانية وشيكة، وقالت بوضوح إن "الجوع يُستخدم كسلاح" ضد المدنيين في قطاع غزة. وأكدت أن الناس يُغمى عليهم في الشوارع من شدة الجوع، وأن المياه النظيفة غير متوفرة، وأن "أدنى مقومات الحياة غير موجودة". 
وطالبت الأونروا بإدخال المساعدات بشكل آمن، وتحت إشراف أممي مباشر، محذّرة من أن المجتمع الدولي سيكون شريكًا في الجريمة إذا استمر في صمته.
العالم… شاهدٌ يتعمّد النظر في اتجاهٍ آخر 
في ظل هذه المأساة، لم يُصدر المجتمع الدولي سوى تصريحات خجولة، ولم تُفعّل أي آلية حقيقية لحماية توزيع المساعدات أو محاسبة الجناة. ومع كل قافلة مساعدات جديدة، يُدفن مزيد من الشهداء تحت شعار "المساعدة الإنسانية". 
فهل أصبح الخبز مشروع شهادة؟
هل باتت غزة مطالبةً بأن تموت بصمت كي لا تُربك مواقف الدول الكبرى؟ 
 غزة بين الجوع والموت البطيء 
في غزة، لا يُقتل الناس فقط بالرصاص أو الصواريخ. يُقتلون بالجوع، بالخذلان، وبالحصار الأخلاقي قبل المادي. 
إنه موتٌ بطيء… لا يظهر في الأخبار العاجلة، ولا تلتقطه الكاميرات دائمًا، لكنه أشد فتكًا، لأنه يذيب إنسانية الإنسان، ويعيد تشكيل المجتمع على صورة البقاء الفردي والفوضى وانهيار الروابط. 
كمائن الموت ليست فقط في السماء… بل في الرغيف، في قنينة الماء، وفي صمت العالم.

 


تعليقات