غزة.. النور الذي شقّ عتمة الظلام العقائدي

د. تاليا عراوي
د. تاليا عراوي

الكاتب: د. تاليا عراوي 
كشفت صرخات غزة المدويّة عن الوجه الحقيقي للديمقراطية، تلك الأسطورة التي طالما وُضِعت لها هالة من القداسة.
لأجيال، قيل لنا إن الديمقراطية هي حكم الشعب، ووعد مقدّس بالحرية والعدالة.
كل طفل يُدفن تحت الأنقاض، ومع كل عائلة تتضور جوعاً بفعل المجاعة المفروضة، ومع كل مستشفى ومدرسة يتم استهدافها عمداً، تكسّرت واجهة الديمقراطية وكُشِف زيفها.
لقد أصبحت غزة الإبادة الجماعية الأكثر وضوحاً في العالم، وفي واقعها المدمّر، بيّنت أن كل اللوائح والإعلانات الدولية، كالقانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف وإعلان حقوق الإنسان، ليست سوى حبر على ورق صيغت في محاولة واهية لتخدير الضمير.
لقد أظهرت الحكومات التي تبشّر بحقوق الإنسان إفلاسا أخلاقيا يتردد صداه في جميع أنحاء العالم.
الديمقراطية أيديولوجية مصممة لإخفاء الحقيقة، لتقديم النهب الاستعماري والسيطرة الإمبريالية على أنهما أعمال خير.
إن لغة «التثقيف» و«التنوير» لم تكن أبداً تعبيراً عن اهتمام حقيقي؛ بل كانت سرداً ذكياً لتبرير الاستيلاء على الموارد وتدمير الثقافات، وغزة هي التجسيد الصارخ لهذه الكذبة، فعندما ينتفض آلاف المواطنين الغربيين للاحتجاج على المذبحة، يتم تجاهل أصواتهم ويُزجّ بهم في السجون، مما يثبت أن «إرادة الشعب» مفهوم لا يُحترم إلّا عندما يتماشى مع الأجندة الإمبريالية.
وتتفاقم هذه الخدعة بسبب الإعلام الخاضع، كما يتضح من منشورات مثل مجلة «بيلد» الألمانية، التي وصفت صحفياً شريفا مثل أنس الشريف بالإرهاب بوقاحة. تكشف مثل هذه الأعمال عن غطرسة هذه المؤسسات، التي، لفرط غرورها وسلطتها المتصورة، تعتقد أنها قادرة على خداع الجماهير وإعادة كتابة واقع واضح للجميع.
هذا الخداع في غزة ليس حدثاً معزولاً؛ بل هو تتويج وحشي لتاريخ طويل من القسوة الإمبريالية، فلقرون، انهارت الأسطورة المؤسسة للخير الغربي عندما واجهت حقائق الاستعمار. إن السكان الأصليين في أميركا الشمالية، وشعوب الإنويت، والأمم الأولى في كندا، والشعوب الأصلية في أستراليا، كلها شهادات على نفس العملية، لقد سُرقت أراضيهم، ودُمّر سكانهم، وفُكّكت ثقافاتهم بشكل منهجي تحت نفس الخطاب القائل بـ «تثقيفهم»، ولم يكن هذا يتعلق بالديمقراطية؛ بل كان لعبة قوة وحشية للسيطرة على الأراضي والموارد الذي لم ينتهِ مع النهاية الرسمية للعصر الاستعماري؛ بل تطوّر ببساطة إلى شكل جديد من الإمبريالية الجديدة. 
الفانوس والوقود 
إن تشبيه «الفانوس والوقود» يخدم كاستعارة قوية لهذا التحوّل، فالقوى الإمبريالية تقدم تكنولوجيا تبدو مفيدة - فانوساً يوفر الضوء - ولكنها بذلك تخلق سوقاً لسلعة تسيطر عليها: الوقود. يصبح السكان المحليون معتمدين على هذه التكنولوجيا الجديدة ووقودها، مما يجعلهم يعتمدون على القوة التي قدمتها.
هذا هو ما نراه اليوم: اعتماد على التحالفات الجيوسياسية والعسكرية التي تسمح بالاستغلال المستمر، بينما يبقى الجنوب العالمي في حالة من الفقر المصطنع.
هذا النفاق ليس حكراً على غزة وحدها، بل يمتد ليشمل دارفور واليمن وغيرها من دول الجنوب العالمي، حيث تتكرر مشاهد الإهمال والاستغلال تحت نفس الشعارات، لكن غزة كانت هي النور الذي شقّ عتمة الظلام العقائدي وكشف الكذبة الشريرة التي هيمنت طويلاً. 
غزة نداء استيقاظ نهائي 
بالنسبة للعرب على وجه الخصوص، يجب أن يكون ألم غزة بمثابة نداء استيقاظ نهائي وحاسم للتخلص من «العقدة الغربية» التي هيمنت على عقولنا لفترة طويلة. إن فكرة أن علينا تقليد الغرب لنكون حديثين أو ناجحين هي كذبة خطيرة. لقد أثبتت الكرامة والصمود الهائل لشعب غزة، الذي يتحمّل معاناة لا يمكن تصوّرها بإيمان ثابت، للعالم أن الإسلام هو دين سلام وعدل وصمود لا يتزعزع. إن ثقافتنا ولغتنا وتاريخنا غني وجميل، ويجب أن نعتز به.
وكما قالت امرأة فلسطينية بشجاعة في خضم الدمار: «لن نرحل. نحن متجذرون هنا مثل أشجار الزيتون. لقد ولدنا هنا وسنموت هنا. لن يتم تهجيرنا»، هذا الارتباط الثابت بالأرض هو تحدٍّ مباشر للرغبة الإمبريالية في محوهم. لكن المعاناة عميقة لدرجة أنها أدّت إلى تصريح أكثر إثارة للرعب. فكما عبّر رجل من غزة بقلب مكسور: «احفروا قبري بجرافة حين أموت، فما رأيتُه... يؤهّلني لأن أكون مقبرةً جماعية». هذا الاقتباس وحده يجسّد رعباً هائلاً يتجاوز الموت الفردي، ويتحدث بدلاً من ذلك عن المعاناة الجماعية التي تتحدّى جميع معايير الكرامة الإنسانية.
إن مسؤولية العنف الهيكلي والقتل والمجاعة في غزة تقع على عاتق الكثيرين، سواء بفعل مباشر أو بتقاعس مشين، ومع هذا الصمت من الأقربين والأبعدين، ومع هذا القتل المستمر، أصبحت أشعر بالخزي من كوني إنساناً، إنهم يعتقدون أنهم سيعيشون إلى الأبد وأن قوتهم مطلقة. الحقيقة هي أن الحياة رحلة، عبور مؤقت، وهناك من يراقب أفعالهم الشريرة، وعدالة إلهية تقول، «هذا سيعود عليك، ولكن بشكل أقوى بكثير»، سيأتي يوم الحساب عندما يعود عليهم البؤس الذي ألحقوه بالآخرين بثمن أقوى.
إن الواقع المدمّر لغزة هو نداء إلى وعي جديد. يجب ألا نُخدع بالوعود الفارغة أو الخطاب الجميل، يجب أن ننظر إلى ما وراء الأكاذيب ونرى العالم على حقيقته. لقد كشفت الأعمال الوحشية ضد شعب محاصر عن نفاق أخلاقي عميق، مما يدلّ على أن حقوق الإنسان والمثل الديمقراطية ليست سوى نقاط حوار تُستخدم لتبرير الظلم، إنها الآن مسؤوليتنا أن نرى هذا الواقع، وأن نشعر به في قلوبنا، وأن نتركه يتردد صداه في عقولنا. قال رسول الله صلى االله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». هذا الحديث يضع على عاتقنا واجباً أخلاقياً لمقاومة الظلم بكل وسيلة ممكنة. وهو ما يلخصه الفيلسوف ألبير كامو في مقولته العميقة من كتاب «الإنسان المتمرد»: «أنا أتمرّد، إذن نحن موجودون». إن التمرّد على الظلم والصمت هو شهادة على وجودنا، وعلى كرامتنا الإنسانية التي يجب ألا تُسلب. وأقلّ ما يمكن فعله هو أن نشهد على الحقيقة.
لقد قُتلنا يوم قُتل الثور الأبيض، وإن صمتنا اليوم، فمصيرنا لا محالة أن نُتبعه. 
* كاتبة واخصائية في الأخلاقيات وناشطة في مجال حقوق الإنسان 

 



تعليقات