الفيزا المرفوضة



الكاتب: ربى النجار 
استهداف للشعب لا للرئيس فقط 
لم يكن قرار الولايات المتحدة رفض منح تأشيرات دخول للرئيس الفلسطيني وطاقمه المرافق حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل صفعة سياسية استهدفت الفلسطينيين جميعاً. فالمنع لم يُوجَّه إلى شخص الرئيس وحده، بل هو رسالة مباشرة إلى الشعب الفلسطيني بأكمله: صوتكم غير مرغوب فيه حتى في المنابر الأممية. في لحظة كان يفترض أن تمثّل منظمة التحرير والسلطة الوطنية فلسطين أمام العالم، جاء القرار ليعكس حجم الاستضعاف الذي وصلت إليه القيادة، وليؤكد أن واشنطن لم تعد ترى في هذه المؤسسات سوى طرف ضعيف يمكن تجاوزه وإقصاؤه. 
أزمة شرعية وغياب أوراق ضغط 
هذا الرفض الأمريكي لا يمكن النظر إليه بمعزل عن التراجع الكبير في مكانة السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية دولياً. فمنذ سنوات طويلة تعيش المؤسسات الفلسطينية أزمة شرعية داخلية، حيث لم تُجرَ انتخابات رئاسية أو تشريعية منذ أكثر من 18 عاماً، ما جعل الرئيس ومؤسسات السلطة عرضة لاتهامات بعدم التمثيل الحقيقي. وإلى جانب ذلك، فإن الارتهان السياسي والأمني لواشنطن وتل أبيب من خلال التنسيق الأمني أفقد القيادة أي أدوات ضغط فاعلة، بينما لم تُستثمر الفرص المتاحة للتحرك على الساحة الدولية مثل الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية أو السعي الحثيث لعضوية كاملة في الأمم المتحدة. هكذا تشكّلت صورة لسلطة تنتظر قرارات الآخرين بدل أن تصنع معادلاتها، ما جعلها بلا وزن حقيقي على طاولة السياسة. 
وفد متضخم وتكلفة مستفزة 
الأزمة لم تقف عند حدود السياسة، بل امتدت إلى الجانب المالي. فقد أثار حجم الوفد المرافق للرئيس صدمة لدى الشارع الفلسطيني، إذ ضم نحو ثمانين شخصاً في وقت تعجز فيه السلطة عن دفع الرواتب كاملة لموظفيها. وتقديرات التكلفة التي تتجاوز 320 ألف دولار أظهرت فجوة مخيفة بين ما تعيشه السلطة وما يعانيه المواطن. هذا المبلغ وحده يكفي لبناء مدرسة ابتدائية أو تغطية نفقات علاج مئات المرضى أو سد احتياجات آلاف الأسر الفقيرة لشهر كامل. الرسالة التي يقرأها الفلسطينيون من هذا المشهد واضحة: قيادة تعيش في فقاعة بروتوكولات فاخرة بينما الناس يفتشون عن أبسط مقومات الحياة. 
خيارات غائبة وفرص ضائعة 
الموقف الذي تبنته القيادة الفلسطينية بعد رفض الفيزا كان باهتاً، إذ اكتفت بالمناشدات والانتظار. في المقابل، كان بالإمكان تحويل الأزمة إلى فرصة. كان يمكن إعلان مراجعة شاملة للتنسيق الأمني والاتفاقيات السياسية والاقتصادية مع واشنطن وتل أبيب، أو التوجه إلى الأمم المتحدة بشكوى رسمية ضد الدولة المضيفة لانتهاكها التزاماتها الدولية، أو حتى الدعوة لعقد جلسة طارئة للجمعية العامة في جنيف كما حدث عام 1988 حين مُنع ياسر عرفات من دخول نيويورك. وكان من الممكن أن تستغل القيادة المنع لعقد مؤتمر صحفي عالمي من رام الله، يُبث مباشرة على وسائل الإعلام الدولية، لتقلب الحرمان من الفيزا إلى منصة إعلامية مضادة. 
استحقاق الموقف الدولي 
على الصعيد الدولي، كان من المفترض أن يُنظر إلى القرار الأمريكي باعتباره إهانة جماعية للقضية الفلسطينية، لا مجرد أزمة شخصية مرتبطة بالرئيس. فالدول العربية مطالبة بأن تعتبر هذه الخطوة استهدافاً للشعب بأسره، فيما على أوروبا أن تذكّر واشنطن بالتزاماتها القانونية وفق اتفاق المقر. أما الأمم المتحدة فهي أمام اختبار مصداقية، فإما أن تتخذ موقفاً لحماية استقلاليتها وإما أن تتحول إلى رهينة لمصالح الدولة المضيفة. وحتى المنظمات الحقوقية كان يفترض أن تتحرك لتوثيق هذا الانتهاك باعتباره اعتداءً على حرية التمثيل السياسي لشعب ما زال تحت الاحتلال. 
خرق صارخ لاتفاق المقر 
من الناحية القانونية، لا يترك "اتفاق المقر" الموقع عام 1947 بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة مجالاً للتأويل. فقد نص صراحة على التزام الدولة المضيفة بتسهيل وصول جميع ممثلي الدول الأعضاء إلى مقر المنظمة في نيويورك بلا قيود أو تمييز، حتى في حال كانت العلاقات السياسية متوترة أو مقطوعة. المادة الحادية عشرة من الاتفاق تلزم واشنطن بإصدار التأشيرات بأسرع وقت ممكن لكل من تعتمدهم الأمم المتحدة، والمادة الثانية عشرة تمنع استخدام الخلافات السياسية كذريعة للمنع. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة خرقت هذه الالتزامات مراراً، من منع عرفات عام 1988، إلى تعطيل تأشيرات لمسؤولين إيرانيين وكوبيين وروس في السنوات الأخيرة. بل إن الاتفاق يتيح للأمم المتحدة أن تعقد اجتماعاتها في مدينة أخرى إذا استمرت واشنطن في رفض التزاماتها، وهو ما حصل بالفعل عندما انتقلت الجمعية العامة إلى جنيف في نهاية الثمانينات حين رفضت واشنطن منح تأشيرة للرئيس الشهيد ياسر عرفات. 
تداعيات أخطر من البروتوكول 
القرار الأمريكي اليوم يفتح الباب أمام تداعيات خطيرة. فهو ليس موجهاً للرئيس وحده، بل للشعب الفلسطيني بأسره. هو محاولة لعزل فلسطين عن الساحة الدولية وتجريدها من حقها في الدفاع عن قضيته عبر منبر الأمم المتحدة. الأخطر أنه يهدد مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء، ويخلق سابقة تسمح لواشنطن بانتقاء الوفود التي يسمح لها بالدخول على أساس سياسي. أما على الصعيد الفلسطيني الداخلي، فإن استهداف منظمة التحرير والسلطة الوطنية بهذا الشكل يعزز صورة الضعف والعجز، ويمنح الاحتلال وحلفاءه فرصة لطرح بدائل أو تجاوز هذه المؤسسات باعتبارها غير قادرة على ممارسة دورها الطبيعي. 
خلاصة ودعوة للتحرك 
رفض الولايات المتحدة منح الفيزا للرئيس الفلسطيني ووفده لم يكن مجرد نزاع بروتوكولي عابر، بل هجمة سياسية وقانونية على الشعب الفلسطيني وصوت قضيته. القيادة اكتفت بردود خجولة جعلتها تبدو وكأنها في موقع المتلقي للضربات، فيما كان يفترض أن تستغل اللحظة لإعادة رسم قواعد اللعبة. والرسالة التي أرادت واشنطن إيصالها باتت جلية: من لا يملك أوراق القوة، لا يملك حتى حق الدخول. 
غير أن مواجهة هذه الصفعة لا تقتصر على القيادة وحدها، بل هي مسؤولية جماعية. المطلوب أن يتحول هذا المنع إلى لحظة وعي فلسطينية وعربية، تعيد الاعتبار للقضية في الساحات الدولية، وتؤكد أن فلسطين ليست طرفاً يمكن إقصاؤه من قاعات الأمم المتحدة بقرار إداري. فالقضية ليست فيزا تُرفض أو تُمنح، بل حق شعب لا يسقط بالتقادم، ولا يمكن أن يُمحى من سجلات التاريخ.

 

تعليقات