لهاثٌ صامتٌ في أرضِ الغول

غدير حميدان الزبون
  غدير حميدان الزبون
الكاتب: غدير حميدان الزبون
يسري، أقرأك، وأراك تركض بين الأنقاض، وأسمع أنفاسك تتقاطع مع صدى القذائف، وأدرك أنّ كلّ خطوة مهما كانت صغيرة تحمل معها سؤالًا واحدًا:
لماذا نحن هنا؟
ولماذا يتحرك الموت كما لو كان قدرًا مكتوبًا مسبقًا علينا، بينما نحن نرفع أيدينا بلا جدوى؟
هل رأيت يومًا أنّ الحياة هنا تُقاس بآلة واحدة، بزرّ مضغوط من بعيد، بمدفع يقرر مصيرك قبل أنْ تعرف نفسك؟
أتعلم، نحن جميعًا هناك، لا فرق بيننا، الظل الذي يركض، والأب الذي يحمل طفله، والمرأة التي تبحث عن شيء تبقيه ذكرى، ونحن في الضفة الأخرى نركض ونلهث وراء الشاشات الإخبارية، وننزلق بدموعنا، فنسقط وتذوي أرواحنا، فتسقط هي الأخرى، كلنا نتشارك هذا العجز.
هل فكرت أننا، رغم كل محاولاتنا، لا نملك إلا الحركة، الصراخ، التساؤل، وأنّ السماء التي نرتجف تحتها واحدة، والتراب الذي تهوي عليه القذائف واحد؟
لقد ركضت اليوم كما ركضت بالأمس، وربما سنركض كلّنا غدًا، وما زلت أتساءل معك: هل النجاة صدفة، أم أنها صرخة اختبأت في قلوبنا رغما عن أنف الانفجار؟
وهل نستمر في الركض لنثبت وجودنا، أم لنكون شاهدين على عبثية الزمن، وعلى عجزنا أمام آلات القتل التي تتحكم بمصائرنا؟
وإليك العجب: رغم كلّ هذا العجز المقيت، ورغم كلّ آلة هوجاء غبية تقتل قبل أنْ نلتفت، هناك شيء لا يستطيع أحد أن يمسّه.
الإنسانية التي تنبض فينا، والتي تجعلنا نصرّ على السؤال، على الكتابة، على الحب، على الوقوف، على الاحتفاظ بالكرامة في قلب الرعب.
نحن نعيش رغم أنف الأدوات التي صنعت لتفرق بيننا وبين وجودنا، ورغم أنف الزمن الذي يبدو ضاحكا من محاولاتنا، ورغم أنف الحرب التي تريد منا أنْ نكون مجرد ظلال.
وها أنا أقول لك، لتغفرْ لنا السماء عجزنا. نعم، لتغفر لنا أنّنا لم نستطع أنْ نصنع فارقًا، وأننا لم نتمكن من أنْ نحمي الأطفال، أو نوقف القذائف، أو نعيد الزمن إلى مساره الطبيعي.
لتغفر لنا أننا عاجزون، وأنّ كل زر يُضغط، وكل طائرة تُسَيّر تفصل بيننا وبين من نحبّ، لعلّها تغفر لنا أننا ما زلنا نعيش، وما زلنا نحمل الأمل، وما زلنا نحمل فلسطين معنا في الدم والتراب والسماء.
يسري، أتعرف ماذا أرى؟
أرى كلّ شارع يحمل ذكرى، وكلّ زاوية تحمل صرخة، وكلّ بيت محطّم يحمل نبض الإنسان الذي لم يُمحَ بعد.
هل تعتقد أنّ عجزنا هذا يُنهي شيئًا؟
كلا، هو يجعلنا أكثر إدراكًا، أكثر تمسكًا بالحياة، أكثر وعياً بأنّ كل لحظة ننجو فيها هي إعلان حقيقي بأننا موجودون، وأننا بشر، وأنّ في أعماقنا القدرة على الحبّ رغم الخراب، وعلى السؤال رغم الموت، وعلى المقاومة رغم القسوة.
وأسألك: هل نحن هنا لنكون أرقامًا على لوحة جندي حقير لا يعرفنا، أم لنكون صدى للإنسانية؟
وهل ننجو لنستمر في الركض، أم لنثبت أننا نحمل الأرض والسماء معنا في نفس اللحظة؟
وهل النجاة رغم كلّ شيء هي واجب، أم حق؟
وهل يستقيم أنْ نحمل الألم مع الأمل، والخوف مع الشجاعة، واليأس مع الحب، ونتعلم أنّ كلّ صمت، وكلّ انفجار، وكلّ شارع مليء بالدم والأنقاض، هو أيضًا درس عن الحياة وعن معنى الوجود؟
كلّ هذه الثنائيات تدور في فلك واحد، فلك "وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ، وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ، نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ، وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ، وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ، نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ، ونَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ، وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ، وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً، أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ، أَوْضِحْ قَلِيلاَ، نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا...".
ابقَ حيًا يا يسري، واكتب، واصرخ، وتساءل، وتأمّل، لأنّ كل كلمة تكتبها ليست لك وحدك، هي لكلّ ظلٍ خرج ولم يعد، ولكلّ شارع يحمل ذكرى، ولكلّ طفل يتعلم معنى الحياة رغم انفجار كلّ شيء حوله.
نحن ننجو معك، نحن نسير معك، نحن نحمل معك نفس السماء ونستند على نفس التراب.
وكلّ يوم ننجو فيه ليس صدفة، وإنّما هو شهادة صارخة بأننا موجودون، أننا بشر، وأنّ في صمتنا، وفي عجزنا، وفي لهاثنا الصامت هناك حياة، هناك فلسطين، هناك الإنسانية التي لا تنكسر.



تعليقات