فلسطين24: أحلام حماد
لم يستمع الطفل يزن علوان لـ "جرس المدرسة" ولم يقف في "طابور الصباح"، ولا يعلم شيئا عن المدارس إلا أنها "مراكز إيواء"، تكتظ فصولها الدراسية بالنازحين، الذين شردتهم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ودمرت منازل غالبيهم، وباتوا بلا مأوى.
عندما اندلعت الحرب على غزة في أكتوبر ٢٠٢٣ كان يزن (6 أعوام) قد التحق لتوه بإحدى رياض الأطفال في مخيم جباليا للاجئين شمال القطاع.
وعلى وقع هذه الحرب التي استمرت لعامين متتالين من القتل والتجويع والتدمير والتشريد، اضطرت أسرة يزن (5 أفراد) لمغادرة منزلها في محاولة للنجاة، ونزحت نحو مدرسة تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في المخيم ذاته، الذي حولته آلة الحرب الإسرائيلية لاحقا إلى أثر من بعد عين.
لم تسمح سنوات عمر هذا الطفل أن يدرك ما يدور من حوله، غير أنه اليوم بات يدرك معنى الخوف وما يحمله معه من موت انهمر على رؤوس الغزيين، فرادى وجماعات، حتى داخل منازلهم وفي المدارس.
مخاوف الأمية
يجهل الطفل يزن القراءة والكتابة، ولا يعرف شيئا عن الحروف والأرقام، وقد حرقت ويلات الحرب والنزوح عامين من عمره، وجد نفسه خلالها أمام مسؤوليات جسام لا تناسب جسده الغض، ومن أجل مساعدة أسرته يلاحق يوميا صهاريج متنقلة حاملا بيديه الصغيرتين غالونا بلاستيكيا لتعبئته بمياه الشرب، ويقف في طابور طويل أمام تكية خيرية للحصول على وجبة طعام.
في خيمة متهالكة لا تقي من حر الصيف أو برد الشتاء، وتفتقر للخصوصية والأمان، يقيم يزن وأسرته بمدينة دير البلح وسط القطاع، بعد محطات من القهر تنقلوا بينها منذ اضطرارهم للنزوح قسرا عن شمال القطاع نحو جنوبه على وقع العملية العسكرية الإسرائيلية البرية بداية اندلاع الحرب.
"نفسي أروح على المدرسة وأتعلم وأصبح طبيبا"، يقول يزن، وإلى جانبه والدته تضع كفها على خدها والعجز والحزن يعتصر قلبها على طفلها من دون أي أفق قريب لعودة الروح للحياة التعليمية المنهارة في غزة.
وتقول والدة يزن، آمنة علوان (48 عاما)، إنه أصغر أطفالها، ولا تزال تتذكر ذلك الصباح الأول له في الروضة، عندما استيقظ مبكرا، وكاد يطير فرحا وهو يرتدي زي الروضة ويضع على ظهره الحقيبة الصغيرة الملونة التي اختارها بنفسه.
وبينما آمنة تتذكر ذلك الصباح وكأنه في زمن غابر غارق في القدم، انفجرت عيناها بالدموع، وتساءلت بصوت يملؤه القهر والغضب: "ما مصير يزن ومئات آلاف الطلبة ممن حرمتهم الحرب من التعليم؟"، وتبدي هذه الأم قدرا كبيرا من القلق والخشية على طفلها من الجهل والأمية والحق بحياة طبيعية.
وحرمت الحرب حوالي 800 ألف طالب وطالبة من الالتحاق بالعام الدراسي الجديد للموسم الثالث على التوالي، جراء الاستهداف الممنهج والتدمير الهائل للبنية التعليمية.
وكان في قطاع غزة قبل اندلاع الحرب 796 مدرسة، و17 جامعة وكلية مجتمع متوسطة، ووفقا لتوثيق المكتب الإعلامي الحكومي فإن 165 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية دمرها الاحتلال الاسرائيلي كليا، و392 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية دمرت جزئيا.
وعلاوة على الخسائر المادية الفادحة، قتلت قوات الاحتلال 13500 طالب وطالبة، و830 معلما وكادرا تربويا، و193 عالما وأكاديميا وباحثا حسب احصائيات مكتب الإعلام الحكومي.
تدرك آمنة هذا الانهيار وأثره على طفلها، وتنظر إليه بعين القلق والخشية على حياته ومستقبله، وتقول إن الحرب لم تمنحه الفرصة لتعلم الإمساك بالقلم وللشعور بالأمان، أو حتى أن يستمتع بأيامه كطفل، وقد عايش ويلات لن تمحوها السنين بسهولة.
التعليم ضحية الحرب
وللطفل وليد المريدي حكاية أكثر مرارة، نتيجة تجارب قاسية مرت به منذ اندلاع الحرب، بدأت بالنزوح وأسرته (7 أفراد) عن منزلهم في مدينة غزة، قبل تدميره كليا من قبل جيش الاحتلال، مرورا بقسوة النزوح المتكرر، وحتى إصابة والده بنيران الاحتلال ليتحول الى أب صامت للابد عاجز عن الحركة.
تركت هذه التجارب القاسية على مدار عامين أثرها الكبير في قلب هذا الطفل الصغير (10 أعوام)، وفقد الرغبة في التعليم والحياة منذ إصابة والده رائد (38 عاما) بعيار ناري في رأسه تسبب في شلله اثناء سعيه مع حشود من المجوعين للحصول على مساعدة تسد رمق أسرته، في أوج المجاعة التي فتكت بالغزيين في الأشهر الأولى منن عام ٢٠٢٥.
عندما اندلعت الحرب كان وليد في الصف الثاني الابتدائي، وبحسب والدته علا عبد العاطي (32 عاما) فقد كان "طالبا واعدا مجتهدا ونشيطا، ومفعم بالأمل والطموح".
يقيم وليد وأسرته حاليا في خيمة مهترئة قرب مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس، وعلى قارعة طريق لا تتوقف عليه حركة سيارات الإسعاف وما تصدره من أصوات تنذر بموت قادم، ولم يعد يفكر في التعليم أكثر من تفكيره بالنجاة وبالحصول على المياه والطعام، ويقضي وقتا طويلا مرافقا لوالده متنقلا بين الخيمة والمستشفيات.
بعد إصابة والده امتنع وليد عن الدوام في مدرسة متواضعة من الخيام أقامتها خالته المعلمة أحلام عبد العاطي، ويقول بحزن: "كان حلمي أن أصبح طبيبا، ولكنني أشعر اليوم أنني لن أحقق هذا الحلم أبدا .. وكل ما أفكر به اليوم أن أعمل من إجل إعالة أسرتي".
تقول أحلام إن ابن شقيقتها أصيب بانتكاسة وتسببت إصابة والده في قلب حياته رأسا على عقب، فقد كان والده مصدر الأمان الرئيسي بالنسبة له. كان وليد واحدا من أكثر الطلاب نشاطا واجتهادا، ولكنه فقد الشغف والرغبة في التعليم.
وانعكست الهموم التي تملأ قلب هذا الطفل الصغير على هيئته وسلوكه، وبات –حسبما تقول خالته- أكثر عصبية، وغابت عنه الابتسامة، ولكن إصابة والده "اغتالت طفولته" ووجد نفسه في لحظة -لا تناسب عمره- مسؤولا عن والدته وأشقائه الأصغر منه ومضطرا للتعامل مع احاسيس كثيرة مليئة بالرعب.
وفي حكاية أخرى من حكايات الوجع، تشكو تغريد الخطيب من تدهور المستوى التعليمي لطفلتها دلال، التي كانت في الصف الثاني الابتدائي عندما اندلعت الحرب، وتقول إنها كانت تتمتع بذاكرة قوية وقدرة مميزة على الدراسة وتحقق درجات عالية في الامتحانات.
انقطعت دلال عن التعليم عقب النزوح قسرا من مدينة رفح عشية عملية عسكرية إسرائيلية موسعة في مايو/أيار من العام الماضي 2024. ودمر منزل أسرتها في حي تل السلطان غرب المدينة، وتقيم منذ ذلك الحين في خيمة متواضعة متهالكة.
في هذه الخيمة التي يميل لونها إلى الرمادي من كثيرة التنقل بها من مكان نزوح الى آخر ومن كثرة ما علق من غبار وأتربه وآثار قصف اسرائيلي، تقضي الطفلة دلال (8 أعوام) يومها في مساعدة والدتها بغسيل الملابس يدويا، وإشعال النار لإعداد الطعام، وتعبئة المياه في برميلين بلاستيكيين أحدهما للشرب والآخر للنظافة.
والدة دلال، تغريد الخطيب كانت معلمة مرحلة أساسية في مدرسة حكومية بمدينة رفح قبل اندلاع الحرب، وتقول هذه الأم الأربعينية إنها لا تمتلك القدرة أو الطاقة أو الصبر لمنح طفلتها الكبرى دلال والأصغر محمود (6 أعوام) الوقت لتعليمهما مجرد الأساسيات من قراءة وكتابة.
وبعد لحظات من الصمت الممزوج بالألم والحسرة ووجه شاخ على وقع وجع أيام الحرب الطويلة: "من أين نأتي بالوقت وراحة البال لتعليم أطفالنا في ظل هذه الحياة البائسة والمعقدة؟".
فقدت الخطيب منزلها ومدرستها في مدينة رفح، التي توصف بأنها "منطقة منكوبة".
حدثنني عن بعض من فقدت من الأحبة وما تملك. قالت: "الحرب أعادتني سنوات طويلة إلى الوراء، وخسرت كل ما أملك". وهنا قاطعت دلال حديث والدتها وقالت بكلمات بريئة: " سأكبر وأصبح مهندسة وأعيد لك بناء البيت والمدرسة"، واحتضنت الأم طفلتها وانخرطت في بكاء مرير". ليسود بعدها صمت موجع.
واقع متدهور
يزن ووليد ودلال ومحمود، هم نماذج لأطفال غزة ممن فتكت الحرب بأعمارهم ومستقبلهم، وتركت أثرها على رغباتهم واحلامهم وحقهم في التعليم والمعرفة.وتصف المعلمة أحلام عبد العاطي مستوى الطلبة في التحصيل الدراسي بأنه "سيء للغاية"، وتقول إن معايشتها للأطفال في مدرستها قبل أن تدوسها الدبابات الاسرائيلية وتدمرها في مدينة خانيونس، أظهرت لها أن أغلبية الأطفال، خاصة من هم في عمر السنوات الأولى من رياض الأطفال والبستان والتعليم الأساسي، يفتقدون القدرة على التركيز وتمييز الحروف والأرقام، وغير قادرين على القراءة والكتابة.
"المعرفة لدى الكثير منهم صفرية، فالحرب وتداعياتها جعلت التعليم للأسف رفاهية غيرأساسية في مقابل الحفاظ على الحياة وقوت اليوم.
وتقول: " كنا في مجتمع يعطي التعليم لأطفاله أولوية، اليوم احتمالات الامية باتت عالية".
وبنظرة على الآثار النفسية والجسدية ، تقول الأخصائية النفسية الدكتورة آمنة حمد إن الأطفال في المرحلة العمرية من 6 إلى 8 سنوات، يمرون بأكثر المراحل النمائية حساسية، وهي "مرحلة التكوين المدرسي المبكر"، وفيها يبدأ الطفل ببناء مفاهيمه الأساسية عن العالم من حوله، وعن ذاته ككائن اجتماعي ومتعلم.
والمدرسة في هذا السياق لا تؤدي فقط دورا أكاديميا، بل تشكل بيئة نفسية واجتماعية حاضنة تسهم في بناء الهوية والمعرفة والشعور بالأمان ، وفقا للدكتور حمد.
وعندما يحرم الطفل من هذه البيئة لسنوات، توضح الأخصائية النفسية أنه "لا يكون الأثر مقتصرا على الفاقد التعليمي فحسب، بل يمتد ليشمل تأثيرات نفسية عميقة وملازمة لحياة الأطفال لسنوات طويل، ويفقد الطفل الإحساس بالروتين الإيجابي، الاستقرار، والمكان الذي يمنحه شعورا بالانتماء والنمو المعرفي. كما يحرم من التفاعل الوجاهي، صنع علاقات صحية بزملائه وزميلاته واللعب الجماعي، والتواصل مع نماذج قدوة كالمدرسين، وهو ما يؤثر سلبا على نضجه العاطفي والاجتماعي".
هدأ الموت في غزة ....لكن آثار هذه الحرب ستبقى ملازمة لأطفالها وأهلها لعمر طويل.
لم يستمع الطفل يزن علوان لـ "جرس المدرسة" ولم يقف في "طابور الصباح"، ولا يعلم شيئا عن المدارس إلا أنها "مراكز إيواء"، تكتظ فصولها الدراسية بالنازحين، الذين شردتهم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ودمرت منازل غالبيهم، وباتوا بلا مأوى.
عندما اندلعت الحرب على غزة في أكتوبر ٢٠٢٣ كان يزن (6 أعوام) قد التحق لتوه بإحدى رياض الأطفال في مخيم جباليا للاجئين شمال القطاع.
وعلى وقع هذه الحرب التي استمرت لعامين متتالين من القتل والتجويع والتدمير والتشريد، اضطرت أسرة يزن (5 أفراد) لمغادرة منزلها في محاولة للنجاة، ونزحت نحو مدرسة تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في المخيم ذاته، الذي حولته آلة الحرب الإسرائيلية لاحقا إلى أثر من بعد عين.
لم تسمح سنوات عمر هذا الطفل أن يدرك ما يدور من حوله، غير أنه اليوم بات يدرك معنى الخوف وما يحمله معه من موت انهمر على رؤوس الغزيين، فرادى وجماعات، حتى داخل منازلهم وفي المدارس.
مخاوف الأمية
يجهل الطفل يزن القراءة والكتابة، ولا يعرف شيئا عن الحروف والأرقام، وقد حرقت ويلات الحرب والنزوح عامين من عمره، وجد نفسه خلالها أمام مسؤوليات جسام لا تناسب جسده الغض، ومن أجل مساعدة أسرته يلاحق يوميا صهاريج متنقلة حاملا بيديه الصغيرتين غالونا بلاستيكيا لتعبئته بمياه الشرب، ويقف في طابور طويل أمام تكية خيرية للحصول على وجبة طعام.
في خيمة متهالكة لا تقي من حر الصيف أو برد الشتاء، وتفتقر للخصوصية والأمان، يقيم يزن وأسرته بمدينة دير البلح وسط القطاع، بعد محطات من القهر تنقلوا بينها منذ اضطرارهم للنزوح قسرا عن شمال القطاع نحو جنوبه على وقع العملية العسكرية الإسرائيلية البرية بداية اندلاع الحرب.
"نفسي أروح على المدرسة وأتعلم وأصبح طبيبا"، يقول يزن، وإلى جانبه والدته تضع كفها على خدها والعجز والحزن يعتصر قلبها على طفلها من دون أي أفق قريب لعودة الروح للحياة التعليمية المنهارة في غزة.
وتقول والدة يزن، آمنة علوان (48 عاما)، إنه أصغر أطفالها، ولا تزال تتذكر ذلك الصباح الأول له في الروضة، عندما استيقظ مبكرا، وكاد يطير فرحا وهو يرتدي زي الروضة ويضع على ظهره الحقيبة الصغيرة الملونة التي اختارها بنفسه.
وبينما آمنة تتذكر ذلك الصباح وكأنه في زمن غابر غارق في القدم، انفجرت عيناها بالدموع، وتساءلت بصوت يملؤه القهر والغضب: "ما مصير يزن ومئات آلاف الطلبة ممن حرمتهم الحرب من التعليم؟"، وتبدي هذه الأم قدرا كبيرا من القلق والخشية على طفلها من الجهل والأمية والحق بحياة طبيعية.
وحرمت الحرب حوالي 800 ألف طالب وطالبة من الالتحاق بالعام الدراسي الجديد للموسم الثالث على التوالي، جراء الاستهداف الممنهج والتدمير الهائل للبنية التعليمية.
وكان في قطاع غزة قبل اندلاع الحرب 796 مدرسة، و17 جامعة وكلية مجتمع متوسطة، ووفقا لتوثيق المكتب الإعلامي الحكومي فإن 165 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية دمرها الاحتلال الاسرائيلي كليا، و392 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية دمرت جزئيا.
وعلاوة على الخسائر المادية الفادحة، قتلت قوات الاحتلال 13500 طالب وطالبة، و830 معلما وكادرا تربويا، و193 عالما وأكاديميا وباحثا حسب احصائيات مكتب الإعلام الحكومي.
تدرك آمنة هذا الانهيار وأثره على طفلها، وتنظر إليه بعين القلق والخشية على حياته ومستقبله، وتقول إن الحرب لم تمنحه الفرصة لتعلم الإمساك بالقلم وللشعور بالأمان، أو حتى أن يستمتع بأيامه كطفل، وقد عايش ويلات لن تمحوها السنين بسهولة.
التعليم ضحية الحرب
وللطفل وليد المريدي حكاية أكثر مرارة، نتيجة تجارب قاسية مرت به منذ اندلاع الحرب، بدأت بالنزوح وأسرته (7 أفراد) عن منزلهم في مدينة غزة، قبل تدميره كليا من قبل جيش الاحتلال، مرورا بقسوة النزوح المتكرر، وحتى إصابة والده بنيران الاحتلال ليتحول الى أب صامت للابد عاجز عن الحركة.
تركت هذه التجارب القاسية على مدار عامين أثرها الكبير في قلب هذا الطفل الصغير (10 أعوام)، وفقد الرغبة في التعليم والحياة منذ إصابة والده رائد (38 عاما) بعيار ناري في رأسه تسبب في شلله اثناء سعيه مع حشود من المجوعين للحصول على مساعدة تسد رمق أسرته، في أوج المجاعة التي فتكت بالغزيين في الأشهر الأولى منن عام ٢٠٢٥.
عندما اندلعت الحرب كان وليد في الصف الثاني الابتدائي، وبحسب والدته علا عبد العاطي (32 عاما) فقد كان "طالبا واعدا مجتهدا ونشيطا، ومفعم بالأمل والطموح".
يقيم وليد وأسرته حاليا في خيمة مهترئة قرب مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس، وعلى قارعة طريق لا تتوقف عليه حركة سيارات الإسعاف وما تصدره من أصوات تنذر بموت قادم، ولم يعد يفكر في التعليم أكثر من تفكيره بالنجاة وبالحصول على المياه والطعام، ويقضي وقتا طويلا مرافقا لوالده متنقلا بين الخيمة والمستشفيات.
بعد إصابة والده امتنع وليد عن الدوام في مدرسة متواضعة من الخيام أقامتها خالته المعلمة أحلام عبد العاطي، ويقول بحزن: "كان حلمي أن أصبح طبيبا، ولكنني أشعر اليوم أنني لن أحقق هذا الحلم أبدا .. وكل ما أفكر به اليوم أن أعمل من إجل إعالة أسرتي".
تقول أحلام إن ابن شقيقتها أصيب بانتكاسة وتسببت إصابة والده في قلب حياته رأسا على عقب، فقد كان والده مصدر الأمان الرئيسي بالنسبة له. كان وليد واحدا من أكثر الطلاب نشاطا واجتهادا، ولكنه فقد الشغف والرغبة في التعليم.
وانعكست الهموم التي تملأ قلب هذا الطفل الصغير على هيئته وسلوكه، وبات –حسبما تقول خالته- أكثر عصبية، وغابت عنه الابتسامة، ولكن إصابة والده "اغتالت طفولته" ووجد نفسه في لحظة -لا تناسب عمره- مسؤولا عن والدته وأشقائه الأصغر منه ومضطرا للتعامل مع احاسيس كثيرة مليئة بالرعب.
وفي حكاية أخرى من حكايات الوجع، تشكو تغريد الخطيب من تدهور المستوى التعليمي لطفلتها دلال، التي كانت في الصف الثاني الابتدائي عندما اندلعت الحرب، وتقول إنها كانت تتمتع بذاكرة قوية وقدرة مميزة على الدراسة وتحقق درجات عالية في الامتحانات.
انقطعت دلال عن التعليم عقب النزوح قسرا من مدينة رفح عشية عملية عسكرية إسرائيلية موسعة في مايو/أيار من العام الماضي 2024. ودمر منزل أسرتها في حي تل السلطان غرب المدينة، وتقيم منذ ذلك الحين في خيمة متواضعة متهالكة.
في هذه الخيمة التي يميل لونها إلى الرمادي من كثيرة التنقل بها من مكان نزوح الى آخر ومن كثرة ما علق من غبار وأتربه وآثار قصف اسرائيلي، تقضي الطفلة دلال (8 أعوام) يومها في مساعدة والدتها بغسيل الملابس يدويا، وإشعال النار لإعداد الطعام، وتعبئة المياه في برميلين بلاستيكيين أحدهما للشرب والآخر للنظافة.
والدة دلال، تغريد الخطيب كانت معلمة مرحلة أساسية في مدرسة حكومية بمدينة رفح قبل اندلاع الحرب، وتقول هذه الأم الأربعينية إنها لا تمتلك القدرة أو الطاقة أو الصبر لمنح طفلتها الكبرى دلال والأصغر محمود (6 أعوام) الوقت لتعليمهما مجرد الأساسيات من قراءة وكتابة.
وبعد لحظات من الصمت الممزوج بالألم والحسرة ووجه شاخ على وقع وجع أيام الحرب الطويلة: "من أين نأتي بالوقت وراحة البال لتعليم أطفالنا في ظل هذه الحياة البائسة والمعقدة؟".
فقدت الخطيب منزلها ومدرستها في مدينة رفح، التي توصف بأنها "منطقة منكوبة".
حدثنني عن بعض من فقدت من الأحبة وما تملك. قالت: "الحرب أعادتني سنوات طويلة إلى الوراء، وخسرت كل ما أملك". وهنا قاطعت دلال حديث والدتها وقالت بكلمات بريئة: " سأكبر وأصبح مهندسة وأعيد لك بناء البيت والمدرسة"، واحتضنت الأم طفلتها وانخرطت في بكاء مرير". ليسود بعدها صمت موجع.
واقع متدهور
يزن ووليد ودلال ومحمود، هم نماذج لأطفال غزة ممن فتكت الحرب بأعمارهم ومستقبلهم، وتركت أثرها على رغباتهم واحلامهم وحقهم في التعليم والمعرفة.وتصف المعلمة أحلام عبد العاطي مستوى الطلبة في التحصيل الدراسي بأنه "سيء للغاية"، وتقول إن معايشتها للأطفال في مدرستها قبل أن تدوسها الدبابات الاسرائيلية وتدمرها في مدينة خانيونس، أظهرت لها أن أغلبية الأطفال، خاصة من هم في عمر السنوات الأولى من رياض الأطفال والبستان والتعليم الأساسي، يفتقدون القدرة على التركيز وتمييز الحروف والأرقام، وغير قادرين على القراءة والكتابة.
"المعرفة لدى الكثير منهم صفرية، فالحرب وتداعياتها جعلت التعليم للأسف رفاهية غيرأساسية في مقابل الحفاظ على الحياة وقوت اليوم.
وتقول: " كنا في مجتمع يعطي التعليم لأطفاله أولوية، اليوم احتمالات الامية باتت عالية".
وبنظرة على الآثار النفسية والجسدية ، تقول الأخصائية النفسية الدكتورة آمنة حمد إن الأطفال في المرحلة العمرية من 6 إلى 8 سنوات، يمرون بأكثر المراحل النمائية حساسية، وهي "مرحلة التكوين المدرسي المبكر"، وفيها يبدأ الطفل ببناء مفاهيمه الأساسية عن العالم من حوله، وعن ذاته ككائن اجتماعي ومتعلم.
والمدرسة في هذا السياق لا تؤدي فقط دورا أكاديميا، بل تشكل بيئة نفسية واجتماعية حاضنة تسهم في بناء الهوية والمعرفة والشعور بالأمان ، وفقا للدكتور حمد.
وعندما يحرم الطفل من هذه البيئة لسنوات، توضح الأخصائية النفسية أنه "لا يكون الأثر مقتصرا على الفاقد التعليمي فحسب، بل يمتد ليشمل تأثيرات نفسية عميقة وملازمة لحياة الأطفال لسنوات طويل، ويفقد الطفل الإحساس بالروتين الإيجابي، الاستقرار، والمكان الذي يمنحه شعورا بالانتماء والنمو المعرفي. كما يحرم من التفاعل الوجاهي، صنع علاقات صحية بزملائه وزميلاته واللعب الجماعي، والتواصل مع نماذج قدوة كالمدرسين، وهو ما يؤثر سلبا على نضجه العاطفي والاجتماعي".
هدأ الموت في غزة ....لكن آثار هذه الحرب ستبقى ملازمة لأطفالها وأهلها لعمر طويل.

