ما بعد الرؤية الترمبية .. القضية الفلسطينية برعاية عربية إسلامية

د. دلال صائب عريقات

الكاتب: د. دلال صائب عريقات 
النقاش يعود حول طبيعة الطرح السياسي الجديد تجاه القضية الفلسطينية. هل نحن أمام تحوّل حقيقي من إدارة السلام إلى صناعته، أم أمام إعادة تدوير للأزمة بصيغة أكثر براغماتية، وأقل التزاماً بالقانون الدولي والحقوق التاريخية؟
إن قراءة رؤية ترمب لا يمكن أن تكون سطحية أو انفعالية، فهو لا يتحدث بلغة الشعارات، بل بلغة المصالح. هذه هي خطورة الطرح وجاذبيته في آن واحد؛ فهو يُقدّم نفسه كمهندس صفقة، لا كراعٍ لمسار سياسي، وهذا فيه انحراف وسياسة مد وجزر ما بين جهود المملكة السعودية وفرنسا بإطار التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين من جهة، وأحلام ترمب الإبراهيمية مع كبرى الدول الإسلامية، وعلى رأسها السعودية وتركيا وإيران وإندونيسيا وباكستان من جهة أُخرى.
ملامح الرؤية الترمبية تنحصر بصفقة مصالح بلا بوصلة عدالة: طرح ترمب لا يستخدم لغة السلام التقليدية، بل لغة الاستثمار في "حل"، يتعامل من منظور إنساني وأمني واقتصادي، لا سياسي ولا حقوقي. في خطابه لم يأتِ على ذكر الدولة الفلسطينية، ولا حق تقرير المصير، ولا حلّ الدولتين. غابت المرجعيات الدولية، وحضرت معادلة "الصفقة" وأموال الدول العربية بكل ما تحمله من مقايضات. مصطلح "الشعب الفلسطيني" تراجع لصالح "سكان غزة"، ما يشير إلى منهجية خطيرة: تجزئة الجغرافيا وتفتيت الهوية في تعريف المنطقة بعيداً عن منطق الدولة القومية والحدود. هذه ليست زلة لغوية، بل مقصودة. إن اختزال القضية في بُعَديها الإنساني والأمني يعني إخراجها من بعدها التحرري والسياسي. فترمب لا يقترح تسوية سياسية، بل صفقة عقارية: الإرهاب مقابل الاستثمار، من خلال احتواء الفواعل غير الرسمية، القضية الفلسطينية، في رؤيته، ليست قضية تحرر وطني، بل قابلة للإدارة من خلال تقاسم السلطة والأرباح.
فلسطينياً، علينا أن ندرك أن الزخم الدبلوماسي ليس بديلاً عن الحقوق، وبالرغم من كل المخاطر، لا يمكن تجاهل حقيقة أن الحضور الدولي في شرم الشيخ، وعودة الملف الفلسطيني إلى طاولة القوى الكبرى، يشكلان لحظة سياسية نادرة. دخول الأمم المتحدة، ووساطة دول مثل قطر ومصر وتركيا، قد يفتحان نافذة لإعادة تشكيل مسار دولي للقضية إذا ما استغل الفلسطينيون فرصة الزخم الدبلوماسي لإعادة تدويل القضية على أساس الحقوق الراسخة، حيث إن جود أطراف متعددة يعني الاعتراف بأن القضية لم تعد قابلة للإقصاء أو التجاهل، خاصة ببُعديها العربي والإسلامي.
التوقيع من قبل الوسطاء لا الأطراف المتنازعة، كما حدث في شرم الشيخ، يمثل سابقة في عالم المفاوضات، تفتح الباب نحو نموذج دولي أشبه بضمانات جماعية إذا ما ارتبط بآليات تنفيذ ومحاسبة. لكن الحذر واجب: إن تحويل هذا الزخم إلى مجرد ترتيبات إنسانية دون جذور سياسية سيحوّله إلى فخّ، لا فرصة.
الفلسطينيون أمام مخاطر عميقة، تتكرر محاولات التغييب والإقصاء أو التهميش لفصل غزة، وتحويل القضية إلى ملف إنساني. الخطر الأكبر في رؤية ترمب يتمثل في محاولة فصل غزة عن مجمل القضية الفلسطينية بتحويل القطاع إلى كيان قائمٍ بذاته، يخضع لصفقات تهدئة وتنمية، بينما تُدفن قضايا القدس واللاجئين والأسرى والضفة، فتغييب القدس من إطار الحل، مع إعادة تثبيتها عاصمة لإسرائيل، يكرس واقع الضمّ والتعامل مع الفلسطينيين كمجموعة سكانية "أقلية"، لا كشعب صاحب حق في تقرير المصير واستبدال المرجعية القانونية الدولية بمنطق "التفاهمات الربحية" (Neoliberal pragmatism)، والانتقال من الشرعية الدولية إلى شرعية الصفقات، ومن العدالة إلى معادلة الربح والخسارة.
ماذا يفعل الفلسطينيون؟
إدراك أن الحل يبدأ من الداخل بحوار وطني وصياغة مبادرة فلسطينية، لا الاكتفاء برد الفعل: طرح خارطة طريق فلسطينية، مع أهمية البدء بإنهاء الاحتلال. بين البراغماتية الواقعية والعدالة… رؤية ترمب أعادت القضية إلى الطاولة، لكنها تحاول أن تغير شكل الطاولة بين منطق الصفقة ومنطق العدالة، هناك مساحة يمكن للفلسطيني أن يفرض فيها سرديته إذا امتلك الجرأة على الفعل لا الرد، وعلى المبادرة لا الانتظار، وهذا يحتاج للقيادة التي تتبنى الأدوات والعقول التي تومن أن القضية الفلسطينية هي قضية تحرر وطني وحقوق راسخة دون الاكتفاء بالرمزيات.
العودة إلى القانون الدولي كمرجعية غير قابلة للمساومة لإعادة تثبيت: حق تقرير المصير، الدولة، القدس، الأسرى، اللاجئين.
استخدام الزخم الدولي بدل مقاومته: التعامل الذكي مع الوسطاء الدوليين، لا بوصفهم بدائل عن الطرف الفلسطيني، بل كضامنين لمسار يخدم العدالة. الاستثمار في الدبلوماسية متعددة الأطراف، وتفعيل الأدوار: العربي والإسلامي والأوروبي والأممي، لبناء تحالف دولي يمنع تحويل القضية إلى ملف إنساني مؤجل.
ترمب يريد "صنع السلام"، ولكن إنكار الحقائق لا يلغي وجودها، فلا سلام دون اعترافٍ بشعب، ولا صفقة دون دولة، ولا مستقبل دون عدالة، ولا شرق أوسط مستقراً دون إنهاء الاحتلال، وغير ذلك سنعود للدوران في حلقات مفرغة من عملية مفاوضات ومؤتمرات إعادة اعمار وحشد أموال، قد تعيدنا إلى بداية التسعينيات والمشاريع وتحسين حياة الأفراد والانتعاش، ولكن كل هذه التنمية والازدهار والإعمار لا يمكن أن تُستدام دون الرجوع إلى جذر الصراع، وهنا لا خلاف بأن الاحتلال العسكري والمشروع الاستيطاني هما العائق الأول أمام أي سلام وازدهار مستدام.
المشهد الترمبي أعاد القضية الفلسطينية بعد سنواتٍ من حصرها في البُعد الحمساوي- الإسرائيلي إلى بُعدها الفلسطيني العربي الإسلامي- الإسرائيلي، بوجود كلٍّ من تركيا وقطر ومصر كوسطاء وضامنين للاتفاق. هناك أهداف "إبراهيمية" واضحة لترمب مع مجموعة الدول الإسلامية من السعودية إلى إيران وباكستان وإندونيسيا وتركيا، وهذه حقيقة يجب أن يبني عليها الفلسطينيون.


تعليقات