من الركام تولد الحكاية.. رشا توثق غزة بالدمع والصورة


فلسطين24: إعداد: نيفين إسليم 
من حي الأمل في خانيونس جنوب قطاع غزة ، تحمل الصحفية الميدانية رشا أحمد كاميرتها وقلمها لتوثيق التطورات الميدانية في غزة . منذ اندلاع الحرب الاسرائيلية تغيرت حياتها بالكامل: استهداف منزل العائلة وفقدان ابنة أخيها جنى ذات الستة عشر عاما، نزوح متكرر إلى رفح وتفكك الأسرة، شهدت رشا لحظات فارقة فى حياتها لا زالت آثارها حاضرة فى القلب ، فبعد فقدان ابنة أخيها فقدت رشا شقيقيها ، اسماعيل ذو الاربعين عاما ونشأت ذو الثلاث والثلاثون توأمها الأقرب إلى قلبها أحدهم بالإضافة لابن أخيها أحمد ذو الخمس سنوات وفارقو الحياة بقصف اسرائيلى مباشر طال منزلهم.رحلة الفقد لم تتوقف فقد استشهد زميلها المصور الصحفي ابراهيم محارب أثناء تغطية أحداث مدينة حمد العام الماضي ٢٠٢٤- وإصابة زميلتها سلمى القدومي. 
ومع كل هذا الألم، تواصل رشا التغطية الميدانية باكية لكنها مصممة على نقل الحقيقة. 
عندما يصبح التوثيق جرحا مفتوحا 
الصحافة الميدانية ليست مجرد نقل للأخبار، إنها شهادة وتكريس للحظة إنسانية. 
لكن ماذا يحدث عندما تتحول الصحفية نفسها لجزء من القصة؟ 
هذه رشا أحمد التي لم تعد تفصل بين الكاميرا والقلب، بين المهنة والمأساة. 
في كل صورة تلتقطها وجع، وفي كل تقرير تكتبه فقد، وفي كل بث مباشر نبضة ألم تختلط بالواجب المهني. 
المنزل الذي صار ذكرى 
قبل الحرب، كانت حياة رشا عادية مليئة بالتفاصيل الجميلة: 
فى السادس من اكتوبر ٢٠٢٣ صورة رشا الأخيرة من حياتها الاعتيادية تمثلت بتخرجها من الجامعة ، تبدلت بعدها الحياة وهى لم تتجاوز ٣٣ عاما محتفظة بملامح طفولية ...تتذكر رشا تلك السنوات قبل الحرب .. مائدة طعام مشتركة مع العائلة والأصدقاء ، ضحكات ، ذكريات ، أحاديث عائلية جميلة لا تنتهى . 
لكن بعد اندلاع الحرب الاسرائيلية في السابع من أكتوبر كان بداية كابوس لا ينتهي. 
"استيقظنا على رشقات صواريخ... الدخان دخل أعماقنا"، تقول رشا. 
منزل العائلة أصيب بقذيفتين، والنتيجة كانت مأساوية: 
"استشهدت جنى ابنة أخى، وإصيب أفراد عائلتى" . 
البيت الذي كان يحتضن المناسبات الصغيرة والضحكات، أصبح ركامًا يحمل رائحة الدخان والرماد. 
تقول رشا وهي تروي اللحظة الأولى للنزوح: 
"كل شيء صار ذكرى... اللعبة الصغيرة على الرف، الصور المعلقة في غرفتي حتى اليوم الصور الذى يجمعنا فقدناه تحت الردم، مكتبي، والليالي الحلوة مع العائلة... كلها اختفت." 
نزوح وتفكك : رفح محطة الألم المؤقتة 
محطة النزوح الأولي كانت مدينة رفح لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل انهيار حياة كاملة. 
عائلة رشا تفرقت ؛ كل فرد في مكان، وكل ذاكرة في اتجاه مختلف. 
تقول رشا: "في أيام النزوح بتفاصيلها الموجعة، أخي التوأم نشأت اعتقله الجيش الإسرائيلي في ظروف صعبة...قضى ثلاثة أشهر في السجون الإسرائيلية."
الانتقال من مأوى إلى آخر، والبحث عن مأكل ودواء وأمان، جعل الحياة سلسلة من النجاة المؤقتة. 
كانت رحلة نزوح صعبة من خانيونس إلى رفح حيث اضطررنا السير مشيا على الاقدام منذ ساعات الصباح الأولى حتى آذان العصر ولم نحمل معنا الا وجمعنا وهمومنا وبعض أمتعتنا القليلة كل فرد يحمل شنطة صغيرة خاصة به تحتوى على قطع صغيرة من اللوازم الشخصية وتأركين خلفنا كل ما نملك. 
ميدان العمل يتحول إلى ساحة فقدان 
في صباح أحد أيام التغطية الاخبارية، كان فريق صغير من الصحفيين يتجه إلى مدينة حمد لتوثيق الاجتياح الإسرائيلي " رشا، سلمى، عز، وإبراهيم " 
الأسماء ذاتها التي اعتادت تبادل الضحكات قبل التوجه للعمل الميدانى ، لم يكن يعلم أن هذا اليوم سيشهد آخر لقاء بينهم. 
تحكي رشا: "إبراهيم قال لنا مرارا: ما تقدموا... ارجعوا. كلماته كانت تحذيرا وفيها حب وخوف. طلب ان أخلع الدرع علشان يصلي عليه صلاة العصر، شعرت أن اللحظة كانت لحظة وداع قبل الأوان." 
فجأة، خرجت دبابة من بين الأبراج وأطلقت النار مباشرة عليهم. 
أُصيبت سلمى بعيار ناري في ظهرها، وتم نقلها بصعوبة وتحت وابل إطلاق النار على عربة يجرها حمار " كارو" إلى نقطة قريبة قبل وصول سيارة مدنية نقلتها إلى المستشفى. 
تقول رشا وهي تسترجع الموقف بألم:"كانت أصوت المدافع تملأ المكان ، إبراهيم رمى نفسه على الأرض، نظر إلي وكأنه يطلب مني أن أسرع بالهرب همس وقال: ازحفي يا رشا، اهربي إلى مكان آمن ..." 
بعد ساعات ، وصل الخبر المؤلم وأنا فى المنزل وقت آذان الفجر : إبراهيم استشهد. 
تقول رشا: "تلقيت الاتصال من أخيه محمد وقال لي: إبراهيم استشهد ." 
لم تفق رشا من الصدمة حتى جاءها نبأ آخر: محمد محارب نفسه استشهد لاحقا، لتزداد فصول المأساة قسوة. 
القصف أمام المنزل: نهاية توأم وبداية جرح لا يشفى 
بعد فترة قصيرة، وبينما ظنت الأسرة أن الحرب قد خفتت قليلا، 
سقط صاروخ أطلقته طائرة مسيرة أمام باب المنزل. 
كانت رشا على سريرها تُنهي عملها مع زميلتها شروق عندما تحول كل شيء إلى رماد. 
شقيقاها إسماعيل ونشأت وابن إسماعيل كانوا يجلسون أمام البيت يتبادلون الحديث، 
وفي لحظة، اختفوا جميعا تحت الركام . 
لحظة لا تغيب عن قلب رشا ، وكأن الزمن توقف. 
حدثتنى رشا كيف هرعوا لنقل الأحبة تم نقل المصابين إلى المستشفى؛ إسماعيل أدخل إلى ثلاجة الموتى، ونشأت — توأم رشا — نُقل إلى غرفة العمليات. 
تصف رشا المشهد قائلة: "ركضت ولا أدري كيف وصلت المستشفى... قلبي كان يصرخ. لما رجعت البيت وصليت العصر، حسيت بنخزة قوية في صدري... كنت اشعر إنه راح يروح." 
بعد دقائق، جاء الاتصال: نشأت استشهد. 
"شعرت أن الكلمات وهذا الرحيل مزق جزء من روحى. كل الكلمات اختفت، وبقي الصمت والصراخ في داخلي إلى اليوم.." 
رشا تتحدث... بين البكاء والذاكرة 
كانت رشا تسرد حديثها بصوت متقطع تغلبه الدموع. 
تحاول أن تبدو قوية، لكن دموعها كانت تفضح وجعها. 
"نشأت كان يستشيرني في كل صغيرة وكبيرة... كنت أشعر به من نبرة صوته، أعرف متى يحزن ومتى يفرح . إحنا توأم، كأننا روح واحدة في جسدين." 
تتوقف للحظة، ثم تتابع بصوت متهدج : "في الأيام الأخيرة كان دايما يقول لي: الموت أفضل ، تعبت من الحياة... كنت أغير الموضوع ، بس قلبي كان يشعر إنه راح يروح." 
ثم انفجرت بالبكاء وهي تقول بعفوية موجعة: 
"ما بدي عيد ميلادي ييجي ... كنت أنا ونشأت دايمًا نحتفل فيه سوا، بالبيت أو بالمطعم... كيف أحتفل وأنا نصفي مش موجود؟" 
كان المشهد مؤلما بكل تفاصيله؛ رشا التي عاشت الحرب صورة بصورة ووجعا بوجع، لم تفقد فقط زميلا أو أخا ، بل نصف قلبها . 
التغطية لا تتوقف: الصحفية التي تبكي وتتصدى 
رغم كل هذا الفقد، لم تتوقف رشا عن التغطية، تبكي أمام الكاميرا وخلفها، لكنها تواصل العمل. 
توثق معاناة النساء والأسر المشردة والجوع والأمل المتبقي، وترسل تقاريرها إلى العالم الخارجي. 
"قلت لنفسي: إذا ما كتبتش وصورت، مين راح يعمل هيك؟" تقول رشا بصوت متهدج. 
"أنا فقدت كل شيء، لكنى لم أفقد إيمانى بالعدالة وأهمية نقلى للحقيقة" 
البكاء عند رشا جزء من وثيقة شهادتها جزء من إنسانيتها وشهادتها على ألم لا يوصف عاشته و٢ مليون فلسطينى فى غزة. 
بات البكاء ملازما لروحها... يحضر حين تصمت وتفكر فى آلاف الذكريات الجميلة التى قتلتها الحرب ،،،، أمام صور أحبتها ، أمام رائحة الدخان التى تخلفها القذائف ، أمام ألعاب طفلة لم تعد. 
رشا... صوت الحقيقة في زمن الدمار 
بين الركام والدموع، تظل رشا أحمد تجسد المعنى الحقيقي للصحافة الإنسانية تلك التي لا تكتب القصة من خلف المكاتب المترفة ، بل من تحت القصف، بين الجثث والدموع بل من الحياة والموت 
قلمها وكاميرتها تحولا إلى سلاحين للذاكرة والتوثيق تكتب بهما تاريخا مليئا بالجرائم الإنسانية شاهده العالم كله على الهواء مباشرة. 
رشا تحمل للعالم حكاية امرأة اختارت أن تحيا لتروي. 
نزيف قلم وكاميرا 
رشا لازالت تتنفس وتعمل ولم تغادر الميدان لكن نيران الغدر الاسرائيلية انتزعت أرواح ٣٤ صحفية من زميلات رشا لم تمنعهن الفرصة لتكملة الحكاية والرواية . 
تشير توثيق نقابة الصحفيين الفلسطينيين أن ٢٥٥ صحفى شهيد دفعوا من أرواحهم ليجسدوا شعار "بالدم نكتب لفلسطين". 
فيما اصيب صحفى وصحفية جراء استهداف أن اسرائيلية ممنهجة لما فى الميدان أو داخل منازلهم. 
كما تشير توثيق النقابة إلى اعتقال الاحتلال ٣٣ صحفى منذ اندلاع حرب الإبادة يعانون الويلات داخل سجون الاحتلال ثمنا لتمسكهم لنقل الحقيقة. 



 








تعليقات