أنقذوا التعليم… أنقذوا فلسـ.ـطين

د. تهاني رفعت بشارات
د. تهاني رفعت بشارات
بقلم د. تهاني رفعت بشارات
في زمنٍ تتراكم فيه الهموم على صدور الناس كجبال لا تلين، يصبح الحديث عن التعليم أشبه بقرع طبول في صحراء لا يسمعها أحد، لكنه يبقى الوجع الأصدق، لأنه يتصل بمستقبل وطنٍ يُكتب على دفاتر الأطفال، ويُرسَم بأقلام المعلمين، ويُبنى على وعي الأجيال.
المؤلم أن يتحوّل التعليم إلى آخر الأولويات، وآخر الملفات التي تُفتح، وكأنه بندٌ ثانوي لا يقاس به مصير شعبٍ نازف.
والمحزن أن يصير التعليم سلعة لا ينالها إلا المقتدر، في حين يقف أبناء البسطاء على أرصفة الانتظار، يلوّحون بأحلامهم كما يلوّح الغريق بيديه بحثًا عن طوق نجاة لا يأتي.
سنواتٌ طويلة مرّت منذ ما بعد كورونا، مرورًا بالإضرابات المستمرة، والاجتـ.ـياحات، وتقليص الدوام، والتعليم الإلكتروني… ومع كل هذا الخراب لم نسمع عن خطة حكومية شجاعة توقف النزيف وتعيد الاعتبار للمدرسة والمعلم والطالب.
رأينا دمارًا تربويًا واسعًا، كأرضٍ ضربها الجفاف، وفوق الركام بُنيت مؤتمرات لامعة وأضواء براقة واحتفالات من عالمٍ موازٍ؛ عالمٍ لا يسمع صراخ المعلّم المنهك، ولا يرى دمعة الطالب الضائعة، ولا يلمس وجع الأم التي تحوّلت إلى مدرسة رغمًا عنها. عالمٌ مصاب بانفصامٍ صريح… يرفع الشعارات ويتباهى بالصور، بينما الواقع يسقط من تحت قدميه.
والمخيف أن لا نخجل.
والمعيب أن لا نكترث.
أن نصحو كل يوم وكأن شيئًا لم يحدث.
أن نعتاد الفاقد التعليمي كما نعتاد تغير الفصول، وأن نساكن الانكسار وكأنه قدرٌ محتوم.
الإضراب… جرح فوق جراح
الإضراب الحالي ليس توقفًا عن الدوام؛ إنه زلزال تربوي يضرب قلب العملية التعليمية. خمس سنوات والمدارس تُفتح يومًا وتُغلق أسبوعًا، الدروس تُؤجَّل والمناهج تتفتت تحت وطأة الاضطراب المستمر.
كيف لطفل أن يبني عقله في بيئة تُهدم كل يوم؟
كيف لمعلمٍ مُنهك أن يعلّم وهو لم يحصل على أبسط حقوقه؟
كيف لمدرسةٍ متعبة أن تُخرّج أجيالًا قوية وهي بالكاد تقف على قدميها؟
التعليم… روح الوطن
فلسـ.ـطين التي سُلب منها الكثير، بقي لها سلاحٌ واحد لم يستطع الاحـ.ـتلال مصادرته: العقل الفلسطيني.
هذا العقل الذي واجه الظلم بالعلم، ورفع اسم الوطن بالمعرفة، وحمل قضيته على كتفيه.
لكن هذا السلاح اليوم يتعرض لأخطر محاولة إنهاك منذ عقود.
إهمال التعليم ليس خطأً إداريًا… إنه جريمة وطنية.
وترك المدارس لأقدارها ليس تقصيرًا… إنه هدمٌ صامت للمستقبل.
المعلم الذي يقف أمام السبورة هو حامل الوطن، والطالب الجالس أمام الدرس هو مشروع عالم أو طبيب أو مهندس أو قـ.ـائد أو شهـ.ـيد يكتب التاريخ.
إن تركهم يضيعون هو خسارة للوطن لا للعام الدراسي.
إلى متى؟
إلى متى سيبقى الطالب يُستنزف، والمعلم يُكسر، والمدرسة تنهار؟
إلى متى يبقى التعليم محاصرًا بالإضرابات والاجتـ.ـياحات والتعطيلات وتقلّص الدوام؟
خمس سنوات من الاضطراب كفيلة بإسقاط أي منظومة… فكيف بمنظومة تُحارب أصلًا بالاحـ.ـتلال والضغط الاقتصادي؟
إن لم نتحرك الآن، سنستيقظ لاحقًا على جيلٍ لا يملك أدوات المعرفة، ولا لغة الوطن، ولا ذاكرة المدرسة.
نداء الوطن:
أنقذوا التعليم… فهو قلب فلسـ.ـطين.
أنقذوا المعلم… فهو عقلها وضميرها.
أنقذوا الطالب… فهو مستقبلها وروحها.
أنقذوا فلسـ.ـطين… فهي تنهض بالعلم قبل أي سـ.ـلاح، وتنتصر بالوعي قبل أي معـ.ـركة.
التعليم ليس رفاهية تُؤجَّل، ولا قضية يمكن المساومة عليها.
التعليم هو سلاحنا الأخير، ومعركتنا الأعمق، وقضيتنا الأقدس.
وما من أمةٍ هُزمت إلا حين انطفأ نور معلميها، وسقط قلمها، وعجزت عن حماية مقاعد الدراسة.
اللهم اشهد… إننا نكتب بالحبر الذي يشبه الدم:
أنقذوا التعليم… قبل أن تضيع فلسـ.ـطين من بين دفاتر أطفالها



تعليقات