من الوحي إلى الواقع: الشجاعة الأخلاقية وضرورة مواجهة الظلم


د. تاليا عراوي
د. تاليا عراوي
الكاتب: د. تاليا عراوي* 
في عالم اليوم الذي تتسارع فيه وتيرة التغيّرات الاجتماعية والمؤسسية، يواجه الضمير الإنساني صراعاً أزلياً متجدّداً بين اختيار الراحة الآمنة والمواجهة الخطرة. نرى يومياً حولنا أنظمة مالية مُعقّدة تخفي فساداً منظَّماً، وسلطات قوية تمارس القمع وتُهمّش الفئات الضعيفة، وثقافة مؤسسية تشجّع على الصمت في وجه الأخطاء مقابل حفظ الاستقرار الوظيفي. في خضم هذه التحديات الواسعة، يتجدّد السؤال الجوهري: هل الصمت أمام هذا المنكر الواضح هو علامة حكمة وتكيُّف، أم أنه تقاعس أخلاقي وتواطؤ غير مباشر؟
لحلّ هذه المعضلة الأخلاقية التي تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة، تقدّم لنا التعاليم الإسلامية إطاراً عميقاً إذ تُعالَج هذه المشكلة عبر التكليف الأساسي بوجوب إقامة العدل؛ فالإسلام لا يكتفي بطلب تقويم المنكر فحسب، بل يوفر إطاراً أخلاقياً عميقاً يمزج بين الشجاعة وضبط النفس، وهو ما يتردد صداه بقوة في الصراعات المعاصرة من أجل العدالة الاجتماعية والمؤسسية. 
الصمت عن الظلم تواطؤ 
إن جوهر المسألة يكمن في الواجب المعروف بـالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة مجتمعية، ولقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم تسلسلاً واضحاً للتصرف: تغيير المنكر باليد، أو باللسان، أو على الأقل كراهيته بالقلب، وبالنسبة لمن يشهد ظلماً علنياً واضحاً، فإن اللسان هو الأداة المأمور بها. ويأتي تحذيره للمجتمع السلبي صارخاً: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب من عنده».
في هذا السياق، يُدان الصمت باعتباره تواطؤاً، فهو خيانة للمظلوم وشكل من أشكال التعاون مع الظالم. وقد أدرك العلماء الكلاسيكيون خطر الشيطان الأخرس الذي يصمت وهو قادر على إنكار منكر واضح، مُساوياً بين التقاعس والفشل الروحي.
إن المفهوم الإسلامي لقول كلمة الحق يتطابق تماماً مع مفهوم الشجاعة الأخلاقية المعاصر، وهو الاستعداد لتحمّل المشقة، والمخاطرة بالسمعة، أو مواجهة الخسارة المهنية نصرةً للمبادئ الأخلاقية. والامتحان الأقصى لهذه الشجاعة هو كلمة حق عند سلطان جائر، وهي عبارة تجد صداها اليوم في مجالس إدارات الشركات والساحات السياسية على حدٍ سواء.
ففي عالم الشركات المعاصر، تتجسّد هذه الشجاعة في المُبلِّغين عن المخالفات الذين يكشفون عن الاحتيال المنهجي والفساد والممارسات غير الأخلاقية، كأفراد خاطروا بمسيراتهم المهنية بأكملها لكشف تجاوزات مالية ضخمة، أو متخصصين في قطاع التبغ كشفوا عن تلاعب الشركات بصحة الجمهور، أو أفراد كشفوا برامج المراقبة الحكومية الواسعة، مُقدمين بذلك مصلحة الحقيقة والعدل على سلامتهم الشخصية.
في مواجهة هذا، رأى المفكر الأميركي هنري ديفيد ثورو في مقالته «العصيان المدني» أن الصمت هو دعم عملي للنظام الظالم، داعياً إلى الانسحاب من دعمه. وعلى ذات النهج، أطّر مارتن لوثر كينغ الابن الصراع كواجب أخلاقي، مشدّداً على أن الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان، وموجباً تحدّي القوانين الجائرة باللاعنف.
أما المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي فقد حلّل في «طبائع الاستبداد» مشكلة الصمت، فرأى أن الاستبداد يفسد الأخلاق ويولّد الخوف والجبن، مما يدفع الناس إليه خوفاً سياسياً لا حكمة. واعتبر أن هذا الخوف هو ألد أعداء الإصلاح، فكان نداء الكواكبي دعوة مباشرة للتحرر من عبودية الخوف وممارسة الشجاعة الأخلاقية في وجه السلطة الفاسدة.
لكن الدافع الأعمق للسكوت في وجه الظلم غالباً ما يكون الخوف الدنيوي، أي الخوف من الناس (لومهم أو عقابهم) وليس الخوف من االله. هذا الخوف، الذي يتعارض مع واجب الأمر بالمعروف، هو ما حذّر منه القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، مما يضع معياراً إيمانياً واضحاً: الخشية الحقيقية يجب أن تكون من الخالق وحده. وتمدح آية أخرى الرسل والمصلحين بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}، وهي قاعدة تنطبق على كل من يواجه ضغوطاً من سلطة أو مؤسسة خوفاً من عواقب الصدق.
وقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع في حياته الشخصية، فعندما خشي لوم الناس وطعنهم في أمر أراد الله إظهاره عاتبه الله قائلاً: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}، مُعلّماً بذلك أن الخوف من النقد الاجتماعي لا ينبغي أن يُقدّم على أوامر الله وحكمه. وقد لخّص النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشجاعة في وصيته لأبي ذر الغفاري: «ولا تخف في الله لومة لائم»، وهي وصية توجّه لتجاوز التنمّر أو التهميش الاجتماعي والمهني.
لكن التكليف الإسلامي يوازن بين الشجاعة في الحق والانضباط الأخلاقي للسان. فالنصيحة النبوية تلخّص: «فليقل خيراً أو ليصمت»، حيث يصبح الصمت واجباً إذا كان الكلام لغواً أو ضارّاً (كالغيبة)، وقد أكد الإمام الغزالي أن واجب الأمر بالمعروف مشروط بـالحكمة، وبألا يؤدّي إلى فتنة أعظم، ليتحوّل الصمت هنا إلى فضيلة تمنع الضرر الأكبر.
يقدم المنهج الأخلاقي الإسلامي طيفاً كاملاً: إذا كانت الكلمة سلاحاً للحق ودفاعاً عن المظلوم، فإن الصمت تواطؤ؛ وإذا كانت الكلمة محرّكاً للفتنة أو الفرقة أو الباطل، فإن الصمت تقوى وحماية. 
تنمية الحكمة 
وللتعامل مع تعقيدات الحياة الحديثة، فإن المؤمن مدعو إلى تنمية الحكمة، وهي القدرة على التمييز بين الموقف الذي يتطلب شجاعة المواجهة الخطيرة، وبين الموقف الذي يستلزم فضيلة الصمت الآمنة والحافظة، وفي نهاية المطاف، فإن الهدف هو التأكّد من أن كل نطق يتوافق مع العدل والخير والمساءلة، عبر إعلاء قيمة الخوف من الله على الخوف من لوم الناس وعقابهم الدنيوي.
في النهاية، أمام وفرة المظالم العالمية - من فساد عابر للقارات إلى استبداد مُجَذَّر - يصبح دور الكلمة هو الاختبار الفاصل وضرورة البقاء الأخلاقية. يقع على عاتق المثقف، صاحب البصيرة، واجب تاريخي؛ فصمته يتحوّل من تردد إلى شراكة صامتة في الجريمة. يجب أن تكون القاعدة: إذا كان الظلم عالمياً، فلتكن الكلمة الصادقة هي المقاومة العالمية. يجب علينا أن نزرع الشجاعة التي تجعل من إرضاء الله البوصلة الوحيدة، رافضين الخضوع لعبودية الخوف، ومؤمنين بأن صوت العدل، حتى لو كان وحيداً، قوة لا يمكن سحقها. 
* كاتبة واخصائية في الأخلاقيات وناشطة في مجال حقوق الإنسان 

 

تعليقات