الرقمنة الإنسانية في حرب غزة

باسل جعرور
باسل جعرور
الكاتب: باسل جعرور 
منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة 2023، تحول الهاتف المحمول إلى منصة رواية فورية للأحداث، بشكل تغيرت معه حدود ظاهرة الرقمنة الإنسانية المتجاوزة للتحول الرقمي التقليدي، ليس على صعيد توسيع أدوات النشر وزيادة مصادره فحسب، بل في إعادة تشكيل طريقة رواية المأساة نفسها في فضاء تتدفق فيه المعلومات أسرع من قدرة الإنسان على فهمها. 
فبدلاً من أن يتكئ السرد على بناء قصصي واضح، أصبح يقف على لحظات متلاحقة تُنتج وتُنشر قبل أن تمر بعملية تحرير أو تفكير، مما أنتج قصة إنسانية قوية في اللحظة وضعيفة في البناء.. ثرية في الشهادة وفقيرة في الهيكلة التي تسمح بأن تعيش أبعد من زمن بثها، فقد كان واضحاً أن ضغط الزمن يزيح المنهج لصالح الحدث، وأن الصورة تتقدم على الفكرة، والصدمة تسبق أي محاولة لترتيب التفاصيل داخل قصة تمتلك عموداً فقرياً وشبكة أعصاب تدب فيها الديناميكية والحياة. 
ورغم أن السرد الذي خرج من غزة حمل حرارة الواقع وصدقه، إلا أنه دفع نحو فوضى سردية خلقت نوعاً من التشتت، حيث تتساقط القصص الإنسانية كقطع من يوميات دامية بلا روابط كافية تسمح بتحويلها إلى رواية متماسكة؛ ولم يكن ذلك ناتجاً بالضرورة عن ضعف مهني، بل عن ظروف إنتاج قاسية أولاً، أما ثانياً وثالثاً ورابعاً فيتجسد في المنافسة على "السبق" ضمن ميدان الصراع على اللايك لا الفكرة نفسها. 
ومع غياب التصميم المسبق للهيكل أو المحاور، تولدت نمطية غير مقصودة في المحتوى أدت إلى تكرار المشاهد الإنسانية إلى حد بدا كأن الصورة نفسها تتكرر، وليس لأن المشهد ذاته يعاد فعلاً بقصته وشخوصه وعُقدته، بل لأن طريقة صناعته الرقمية نسخت نفسها وتوزعت بذات القالب والوصفة والبهارات، دفنت معها الهوية الأصلية لمكوناتها وقتلت أي فرصة للتمييز، فأنتجت ذات الوجبة في كل طبق، لتصبح المحصلة إعادة تدوير ذات الوجع واستحلابه بدلاً من هندسته داخل سياق يضيف إليه معنى، حتى أضحى معتاداً فاقداً قدرته الأولى على التأثير، مثل "نكتة" تكررت على المسامع فقتلت قدرتها على الإضحاك. 
تفضيل السبق على الجودة فتح الباب أمام سرديات سريعة تُنشر لحظياً بينما تخسر طبقتها التحليلية، فيتسع الفارق بين “ما يحدث” و“ما يُفهم”، ويصبح الجمهور أمام مشاهد أقوى من قدرتها على تفسير نفسها، وهنا تعمَّق الخلل حين غابت مراعاة قواعد الكتابة القابلة للأرشفة، واختفت معها آلاف الشهادات والقصص الإنسانية من الذاكرة الرقمية؛ لأنها لم تُبنَ بنية واضحة، لا في العناوين ولا في الوصف ولا في التسلسل. 
فالقصة الإنسانية، رغم قوتها على المنصات الاجتماعية، تحتاج إلى بنية لغوية تأخد بعين الاعتبار معايير تحسين الكتابة (SEO) كي تساعد محركات البحث على التقاطها والاحتفاظ بها داخل أرشيف الويب، وبالتالي فإن غياب الوعي بهذه النقطة، أو تجاهلها لأغراض السرعة والسبق، قد حرم السردية الفلسطينية من استمرارية كان يمكن أن تمنحها حضوراً أطول، وتأثيراً أعمق، ومكاناً ثابتاً في الذاكرة الرقمية العالمية. 
وبموازاة هذه التحديات البنيوية، ظهرت مشكلة الاتساق الثقافي، فكثير من المحتوى الإنساني كان مصمماً بلغته الطبيعية لجمهور محلي يفهم إيقاعها وانفجارها العاطفي، لكنه بدا عند وصوله إلى الجمهور الدولي غامضاً أو حاداً أو فاقداً للسياق، مهملاً ضرورة أن السرد الرقمي الإنساني يحتاج إلى “ترجمة ثقافية” لا تقوم على تبسيط الواقع، بل على صياغته إقناعياً ليصبح قابلاً للفهم عبر ثقافات مختلفة، ومن دون هذه الترجمة يفقد المحتوى قدرته على صناعة رأي عام خارج حدود الجمهور المحلي مهما بلغت عاطفيته وقوة شواهده. 
ومع تراكم هذا النمط، تشكلت لدى الجمهور—خارجياً وداخلياً—مناعة حسية تجاه الصور، فالزخم الهائل حول المأساة دون الأخذ بضرورات جودة الإنشاء وفردانية القصة وتميزها رغم كل ما يجمعها من قواسهم مشتركة مع الحالة العامة المشابهة، قد أنتج نوعاً من الاعتياد الدفاعي، حيث تصبح الصدمة أقل وقعاً، والمشهد الأقل تدميراً لا يلفت الانتباه إلا إذا تجاوزه مشهد آخر أكثر قسوة، وهنا يتغير معيار “المقبول والصادم”، لا بسبب قسوة المتلقي، بل بسبب القسوة المستمرة للمشهد. 
هذا الشاهد يخبرنا بوضوح أن في هذا النوع من البيئات الرقمية تفقد الصورة قوتها ما لم تُرافق ببناء يعيد تفسيرها ويربطها بحكاية تمنعها من التحول إلى خلفية بصرية عابرة. 
ومع تآكل الفاعلية العاطفية للسرد السريع، يصبح لزاماً إعادة تعريف “الرقمنة الإنسانية”، فهي ليست مجرد نشر لحظي، بل هندسة منظمة للقصة الرقمية بما تحتويه من نص بصري–تفسيري يتيح للمتلقي فهم السياق، ويضمن إمكانية العودة إليه، ويحافظ على صلاحية التأثير عبر الزمن، فالسرد الرقمي الناجع هو الذي يحرّر القصة من لحظة بثها، ويمنحها كفاءة العيش في الأرشيف وقدرة التأثير المستمر في مستقبل سيشهد صراعاً أكبر على سرديات الحرب، ولن يكون الصوت الأكثر انتشاراً هو الصوت الأكثر نفوذاً، بل الأكثر قدرة على ضبط هندسة حكايته ورواية معناه. 
وختاماً، حين تُبنى القصة الإنسانية وفق أبجديات السرد الرقمي الناجع، لا تعود مجرد توثيق للوجع، بل تصبح معرفة مشتركة يمكن أن تستمر، وتؤثر، وتشارك في صياغة الذاكرة العامة، وهنا تتجلى الرقمنة الإنسانية بوصفها مشروعاً واعياً يعمل على تحويل المأساة من صور متفرقة إلى بناء سردي يوازن بين حرارة اللقطة وعمق الفهم، حتى لا يضيع الواقع بين زخم اللحظة وتبخر الذاكرة الرقمية. 

 

تعليقات