اغتصاب مدعوم بالذكاء الاصطناعي!

د. صبري صيدم
د. صبري صيدم
الكاتب: د. صبري صيدم
ما بين الريفييرا والمدينة المدعمة بالذكاء الاصطناعي، عادت أفكار أمريكا لتتفتق بالحلول الاستعمارية لغزة من جديد، هذه المرة من خلال تقديم صهر الرئيس الأمريكي جرالد كوشنير تصوراً جديداً لقطاع غزة حسب ما أوردته صحيفة الوول ستريت جورنال أول من أمس.
ويتمحور هذا التصور حول استحداث منطقة صناعية بغطاء تكنولوجي حداثي يتصرف وكأن غزة مساحة فارغة، قابلة لإعادة التصميم، لا قطاعاً جغرافياً حيّاً لشعب له تاريخه وذاكرته وحقه السيادي غير القابل للتصرّف. خطوات تعيد للأذهان العقلية الإحلالية القائمة على مبدأ "أرض بلا شعب".
ويُسوَّق مشروع "الصهر الفلتة" باعتباره قفزة نحو المستقبل يشتمل على مدينة ذكية، وبنى تحتية متقدمة، وذكاء اصطناعي، واستثمارات بمليارات الدولارات. ومع هذه التقليعة الجديدة يتولد السؤال الجوهري: هل الأمر صمم لتسريع التنمية، أم لتعجيل التهجير؟ فالتكنولوجيا، حين تُربط بالسياسة إنما، تتحول من أداة بناءة إلى وسيلة موجهة، تُعزز السيطرة بلغة أكثر حداثة وأقل فجاجة، لكنها في نهاية المطاف تطُوع وفق نزوات مدرائها ومطبقيها.
المفارقة هو إصرار واشنطن على إعادة انتاج مشروع الريفييرا عبر الاقتراح الجديد، وذلك لجعله مقبولاً ومستساغاً، إضافة إلى إعطاء الحق لنفسها لمصادرة أرض ليست لها واتخاذ القرار بالنيابة عن الفلسطينيين. فمنذ متى كانت غرف مراكز الدراسات، أو الصحف الاقتصادية مخوّلة بتقرير مصير شعب تحت الاحتلال بهذه الوقاحة والاستهتار؟ وهل يُسمح للشعب الفلسطيني أن يعلن تكساس أو فلوريدا مدناً صناعية مثلاً؟ أم أن أمريكا فوق القوانين الدولية وحتى قوانين الطبيعة؟
إن إقامة مدينة تكنولوجيا حقيقية عبر استغلال حقيقة عشق الفلسطيني للعلم والتكنولوجيا، لا يمكن أن يتم إلا بوجود أصحاب الأرض، وبموافقتهم، ومباركتهم وإصرارهم على إعادة إعمار قطاعهم المنكوب والعودة إلى الحياة بقرارهم، لا عبر تهجيرهم وإزاحتهم أو التعامل معهم كـ"عقبة" أمام الاستثمار. فالتنمية لا تقوم على الإكراه ولا بالاختطاف أو التهديد أو الاحتلال المباشر، وإلا تحولت إلى استعمار بحلة رقمية، تُدار فيه الأرض كأصل مالي لا كحق مغتصب.
ولعل استدعاء نموذج هونغ كونغ اليوم إنما يقدّم درسًا بالغ الأهمية والمدلولات، إذ تحولت هذه الجزيرة إلى مركز مالي عالمي عبر انتزاعها من وطنها الأم وتحويلها إلى محمية بريطانية، إبان حروب الأفيون في القرن التاسع عشر، ولتدار بالإكراه لعقود طويلة بعقلية استثمارية صارمة منفتحة على رأس المال العالمي. غير أن هذا الازدهار، بكل ألقه وبريقه، لم يُلغِ حقيقة واحدة: لم يقتل سيادة هونغ كونغ بل أجلها حتى عادت عام 1997، ومع انتهاء عقد الإيجار التاريخي القسري، إلى أهلها، لأن الحقوق لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن وتراكمت المصالح. مثال هونغ كونغ إنما يفضح وهم المشاريع البرّاقة التي تراهن على مغريات المال والتكنولوجيا لطمس الحق، بل تؤكد أن التنمية الإكراهية من الخارج قد تزدهر مؤقتًا، لكنها تبقى معلّقة على سؤال السيادة، ومرتبطة بأصحابها طال الزمان أم قصر.
الغريب في كل هذا المقترح هو استغفال الشعوب المنكوبة كالشعب الفلسطيني والذي لم يرَ مثل هذه المشاريع قبل الحروب، وقبل الدمار، وقبل تحويل غزة إلى ركام؟ فلماذا يا ترى لا تأتي المشاريع "الدسمة" إلا بعد إنهاك الإنسان ووتقتيله وترحيله وشطب جغرافيته؟ الجواب لا يحتاج إلى العناء الكبير، فالاستعمار العالمي لم ينتهِ بعد بل يتجدد تحت راية ترمب، والجشع لم يندثر مطلقاً بل تزايد، والتسلط والعربدة ما زالا أحياء، فيما يُقدَّم المال بوصفه طوق نجاة دون أدنى اعتبار لثمنه السياسي.
إن مشروع المدينة الرقمية "الترمبية" لا يتجاوز ضوابط السيادة فحسب، بل يعلن ومن خلال ضخامة المال المقترح له البالغ 112 مليار دولار بأن احتلال غزة سيطول دون نهاية في الأفق. فالبنى التحتية التكنولوجية مكلفة، بينما ضخ الأموال عادة ما يرتبط باستملاكات وضمانات. إذاً، نحن لا نتحدث عن مدينة ذكية، بل عن طموح محفوف بالعدوانية والتسلط والاستيلاء على الثروات ولمدة طويلة، وذلك في إطار سلب السيادة، وانتزاع الأرض والاستحواذ القسري عليها، وكأن الاستعمار لا ينتهي، تماماً كما يقول الجزائريون عن عاصمتهم: لقد بنت فرنسا الجزائر كأنها لن تغادرها أبداً.
غزة ليست بحاجة إلى "ريفييرا"، ولا لمشروع كوشنير المسمى "شروق شمس" في قالب احتلالي استعماري إزاحي، بل تحتاج إلى حرية وانعتاق من الاحتلال واستقلال لفلسطين… وبعدها فقط، يمكن أن يكون للشمس وشروقها، والتكنولوجيا ومدنها، والريفييرا ومفاتنها، معنىً على خلفية الأرض لأصحابها لا لمحتليها. للحديث بقية!



تعليقات