فتح التي في خاطري

ناصر عطاالله
ناصر عطاالله
بقلم: ناصر عطاالله
وُلدتُ لأبٍ لم أره إلا بعد نصف سنة، كان فيها غائبًا في أحراش جرش في الأردن. تركني لأمٍّ وإخوةٍ صغار، وجاور الوطن السليب ومعه شقيقي الأكبر الذي لم يتجاوز العشرين من عمره وقتها. ولم أسأل عن سبب غيابه إلا بعد أن وضع الوعي ثماره في رأسي، وبدأت الأسئلة الوجودية تتفجر كصدمات متتالية في حياة صبي لا يزال يتدرّب على فك الحروف وتشبيكها.
بعدها بسنوات قليلة، مع دخول المدرسة، بدأت أفهم معنى الفاء والتاء والحاء المرتبطة بعضها ببعض، والمحفورة على جدران منزلنا من الخارج، والمرسومة مع شعلة متوقدة على بوسترات متباينة، والمدموغة على رزم من الأوراق لتكون سندات قبض وصرف، وعلى صناديق ذخيرة بأحجام مختلفة، حتى على لوحة سيارة عسكرية من نوع لانج روفر (فتح)، كانت علامة فارقة في حياتي منذ نعومة العمر. لذا كبرت على أناشيدها وأخبارها وكوفية الفدائي وهو يتسلل إلى الأرض المحتلة ويعود وقد تغيّرت بسواد داكن وأتربة كانت تأخذ وقتًا طويلًا من والدتي لتعيدها إلى سيرتها الأولى.
فتح التي أشغلتني صبيًا من غير ضابط وتنظيم، تغلغلت في وجداني وأنا شاب بدأ يتفتح وعيه من خلال كتب ومجلات ودوريات ولوحات جدارية وأناشيد الثورة. ومن غير داعٍ دعاني للالتحاق في صفوفها، وجدت نفسي مؤمنًا بها كفاحًا ومنهجًا وانسجامًا متممًا لشعارها الخالد: «ثورة حتى النصر».
تكالبت عليها قوى عظمى ودول، وأذناب متاجرة بالقومية، وجماعات لفّت لفيف إبليس بالوسوسة والتفريق والتشكيك والطعن بالظهر. ومضت بطهارة فكرتها من حصار إلى حصار، ومن مؤامرة لتفكيكها إلى مؤامرة لتوطينها موطن المطيع المجرور برغائب التبعية، لكنها استقرت على مبدئها وروح فكرتها من مواجهة مسلحة في البقاع البعيدة والمجاورة للوطن، إلى اشتباك وجودي على جزء عزيز فوق التراب الوطني.
صياغة جديدة ومبدعة حضرت، وحققت العودة لمليون فلسطيني من شتات وشرذمة وانبعاث تلاشي، وجمعتهم مع باقي مكونات شعبهم في الأرض المحتلة، وحققت أول كيانية دسمة معترف بها بعد أن قادت أشرف انتفاضة في التاريخ المعاصر، بإدخال الحجر والمقلاع واللثام قاموس النضال المجيد. وانتصرت بالصبية والشباب والشيوخ والمرأة، رحم المخيم وتاج عين الصمود.
كما استلهمت نضالات الشعوب وتجاربهم لغاية سامية وعالية هي: مواصلة التناوش والاشتباك مع العدو ضمن معادلة طويلة الأمد، وضمان كرامة ومقدرات شعبنا. فكانت الانتفاضة الثانية، وعلى دروبها تعطشت المؤامرات وظهرت الأنياب الصفراء، وجاءت الطعنة الكبرى من الداخل، فكان الانقلاب الدموي وسحب القطاع العزيز وأخذه لحصار مشدد وطامة كبرى.
وهنا يتمدد الخذلان تمدد الوحش بعد التهام فريسته، ويؤخذ قرار الحرب والسلم مأخذ الهواة في لعبة فاشلة، ليذوق شعبنا الويلات مقدمة لإبادة شطبت الكل الوطني في قطاع غزة ومخيمات الضفة. والنضال حسب منهج فتح متواصل على ذات الرتم، ومن غير انحراف ولا تعجّل يؤدي لشطب ما تبقى من الوطن.
فتح التي خاضت معاركها بشرف، وانتصرت على انشقاقها والانقلاب عليها وكل مؤامرات تصفيتها، ما زالت هي فتح الفكرة التي تتوارثها الأجيال من صبيتها إلى شبيبتها وخبرتها المعمّدة بنهر من دماء الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودين. ولم تنزل شعلتها لاختباء، ولم تنحنِ لسيد البيت الأبيض باستجداء، ولن تفعل، طالما نضالها نابع من إيمان بثابت حقوقنا، ويقين ملحمتنا مع عدونا حتى النصر أو الشهادة، ولكن طلبًا لحياة كريمة يحبها الله ويرضاها لعباده، وليس من أجل موت مجاني يسرّ العدو والأحلاف المقنّعة.
فتح ثورة انطلقت، وكان وقودها دماء قادتها الزكية، ومبدأ مشوارها أنها من فلسطين، ولكل فلسطين، ولشعبها، لكل شعبها. فكانت أم الجميع، وستبقى إلى أن ينطق الحجر والشجر، ويعلو شبل وزهرة راية الحرية فوق مآذن القدس، لتنطق أجراس كنائسها بأهازيج النصر.
وإنها لثورة حتى النصر

 

تعليقات