![]() |
| د. إياد إشتية |
الكاتب: د. إياد إشتية
تُعدّ الهندسة النفسية للرأي العام من المفاهيم الحديثة التي تجمع بين علم النفس الاجتماعي وعلوم الاتصال والسلوك الجمعي، بهدف فهم الطريقة التي تُصاغ بها اتجاهات الجماهير وتُوجَّه مواقفهم تجاه القضايا العامة. ويأتي هذا المفهوم في سياق عالمي تتسارع فيه التغيّرات الإعلامية والرقمية، إلا أنّ خصوصيته تتضاعف في الحالة الفلسطينية التي تواجه تحديات مركبة تتمثل في الاحتلال، وتعدد القوى السياسية، وضغط الأحداث اليومية التي تترك أثرًا مباشرًا على الإدراك الجمعي.
وتشير الأدبيات الحديثة إلى أن الهندسة النفسية للرأي العام تقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية: الإدراك، والاستثارة العاطفية، والسردية. فالإدراك يمثل الطريقة التي يفهم بها الناس الأحداث من حولهم، ويُعد قابلاً للتلاعب أو التوجيه عبر الإطار المعرفي والتهيئة والانتقاء من الواقع. أما الاستثارة العاطفية، فتتمثل في المشاعر التي تحكم المواقف الجماهيرية، حيث تلعب الانفعالات مثل الخوف والغضب والأمل والانتماء دورًا أكثر حضورًا من التحليل المنطقي في صياغة الرأي العام. وتأتي السردية لتكون العنصر الأكثر تأثيرًا، إذ تُقدّم الحدث ضمن قصة تحمل أدوارًا واضحة: الضحية والفاعل والتهديد والهدف، وهي السرديات التي تسهم في تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية وتفسير الوقائع اليومية.
ويتميّز الواقع الفلسطيني بخصوصية شديدة في عملية تشكيل الوعي الجمعي، إذ يشكّل وجود الاحتلال عنصرًا مركزيًا يوجّه المشاعر والانفعالات ويعيد صياغة المواقف السياسية والاجتماعية باستمرار. كما يبرز تعدّد القوى السياسية كعامل مؤثر في إنتاج سرديات متنافسة تحاول كل منها هندسة الرأي العام بما يخدم رؤيتها.
ومع انتشار وسائل الإعلام الرقمي، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مساحة مفتوحة لصناعة الوعي، ونشر الروايات البديلة، وفي الوقت ذاته بيئة خصبة للإشاعة والحرب النفسية المنظمة. وتُضاف إلى ذلك التجارب الجمعية اليومية؛ من اعتداءات متكررة واعتقالات وتهجير وفقدان، وهي أحداث تعيد تشكيل المزاج الجمعي باستمرار، وتبني ذاكرة جماعية لا يمكن تجاوزها في فهم الرأي العام الفلسطيني.
تظهر أدوات الهندسة النفسية في السياق الفلسطيني من خلال السرديات الوطنية التي تُستخدم لبناء خطاب الصمود والتحرر والوحدة، أو أحيانًا لتعزيز الانقسام السياسي.
وتُعد وسائل الإعلام الفلسطينية المختلفة لاعبًا رئيسا في هذا المجال، إذ تعمل على إنتاج وعي مقاوم وصامد، لكنها قد تقع في فخ الخطاب الحزبي الذي يعيد إنتاج التجزئة.
وعلى الجانب الآخر، يمارس الإعلام الإسرائيلي هندسة مضادة للرأي العام الفلسطيني، تعتمد على التخويف، وتشويه الرموز، وبث الإحباط، مستخدمًا أساليب مدروسة من الحرب النفسية تهدف إلى إضعاف الروح المعنوية وخلق فجوة ثقة بين الناس ومؤسساتهم. كما تشكل الرموز الثقافية مثل العلم الفلسطيني، وصور الشهداء، والأغاني الوطنية، محفزات نفسية عالية التأثير تُستخدم في التعبئة الجماهيرية وتعزيز الانتماء والهوية.
وتتجلى الهندسة النفسية للرأي العام بشكل أكثر وضوحًا خلال الأزمات، كما حدث أثناء حرب الابادة على غزة. ففي هذه الظروف، تنشط الحرب النفسية الإسرائيلية عبر الرسائل الرقمية والمرئية التي تستهدف إثارة الخوف وإضعاف المعنويات وتعزيز الانقسام. وفي المقابل، يظهر خطاب فلسطيني مضاد يركز على السرديات الوطنية، وتقديم النماذج البطولية، وتوحيد المشاعر العامة، إضافة إلى حملات الدعم النفسي والمجتمعي التي تسعى إلى تعزيز المرونة النفسية لدى المواطنين ومساعدتهم على تجاوز آثار الصدمة.
إن الرأي العام الفلسطيني، الذي يعيش تحت ضغط نفسي مستمر، يصبح أكثر حساسية للعواطف وأقل اعتمادًا على التحليل العقلاني، مما يجعله أكثر تأثرًا بالسرديات والقصص والمحفزات الرمزية. وهنا يظهر الدور الحيوي لمتخصصي الإرشاد والدعم النفسي في مواجهة آثار الهندسة النفسية السلبية، من خلال حملات التوعية، وتفكيك الإشاعات، وتعزيز المرونة النفسية، وإعادة بناء الثقة المجتمعية، ونشر الخطاب الذي يدعم التوازن النفسي والصحة العامة، وهو ما تقوم به مبادرات وطنية متعددة مثل مراكز الدعم الجامعي والمؤسسات الحقوقية والمبادرات الشبابية.
ورغم أهميتها، تحمل الهندسة النفسية مخاطر حقيقية إذا مورست خارج إطارها الأخلاقي، إذ يمكن أن تتحول إلى أدوات تضليل، وصناعة وعي زائف، وتوجيه غير مشروع للمشاعر، وخلق انقسامات اجتماعية تضر بالوحدة الوطنية والصحة النفسية العامة. ويزداد هذا الخطر في مجتمع يعيش حالة صراع طويل، وهو ما يتطلب مسؤولية مضاعفة من الفاعلين الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين.
وفي الختام، يمكن القول إن الهندسة النفسية للرأي العام في الواقع الفلسطيني ليست مجرد ممارسة إعلامية أو سياسية، بل هي عملية تتشابك فيها عناصر الهوية والانتماء والتجربة التاريخية والضغوط النفسية اليومية. إنها أداة يمكن أن تسهم في بناء صمود جماعي إذا استخدمت بإيجابية ومسؤولية، ويمكن أن تتحول إلى معول هدم إذا وُظّفت في سياقات التحريض والإشاعة والتضليل. والتحدي اليوم يتمثل في تطوير خطاب وطني أخلاقي قادر على تشكيل وعي جمعي واعٍ، يواجه الإشاعات، ويعزز الثقة، ويعيد الاعتبار للقيم الجماعية التي تشكل جوهر التجربة الفلسطينية.
تُعدّ الهندسة النفسية للرأي العام من المفاهيم الحديثة التي تجمع بين علم النفس الاجتماعي وعلوم الاتصال والسلوك الجمعي، بهدف فهم الطريقة التي تُصاغ بها اتجاهات الجماهير وتُوجَّه مواقفهم تجاه القضايا العامة. ويأتي هذا المفهوم في سياق عالمي تتسارع فيه التغيّرات الإعلامية والرقمية، إلا أنّ خصوصيته تتضاعف في الحالة الفلسطينية التي تواجه تحديات مركبة تتمثل في الاحتلال، وتعدد القوى السياسية، وضغط الأحداث اليومية التي تترك أثرًا مباشرًا على الإدراك الجمعي.
وتشير الأدبيات الحديثة إلى أن الهندسة النفسية للرأي العام تقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية: الإدراك، والاستثارة العاطفية، والسردية. فالإدراك يمثل الطريقة التي يفهم بها الناس الأحداث من حولهم، ويُعد قابلاً للتلاعب أو التوجيه عبر الإطار المعرفي والتهيئة والانتقاء من الواقع. أما الاستثارة العاطفية، فتتمثل في المشاعر التي تحكم المواقف الجماهيرية، حيث تلعب الانفعالات مثل الخوف والغضب والأمل والانتماء دورًا أكثر حضورًا من التحليل المنطقي في صياغة الرأي العام. وتأتي السردية لتكون العنصر الأكثر تأثيرًا، إذ تُقدّم الحدث ضمن قصة تحمل أدوارًا واضحة: الضحية والفاعل والتهديد والهدف، وهي السرديات التي تسهم في تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية وتفسير الوقائع اليومية.
ويتميّز الواقع الفلسطيني بخصوصية شديدة في عملية تشكيل الوعي الجمعي، إذ يشكّل وجود الاحتلال عنصرًا مركزيًا يوجّه المشاعر والانفعالات ويعيد صياغة المواقف السياسية والاجتماعية باستمرار. كما يبرز تعدّد القوى السياسية كعامل مؤثر في إنتاج سرديات متنافسة تحاول كل منها هندسة الرأي العام بما يخدم رؤيتها.
ومع انتشار وسائل الإعلام الرقمي، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مساحة مفتوحة لصناعة الوعي، ونشر الروايات البديلة، وفي الوقت ذاته بيئة خصبة للإشاعة والحرب النفسية المنظمة. وتُضاف إلى ذلك التجارب الجمعية اليومية؛ من اعتداءات متكررة واعتقالات وتهجير وفقدان، وهي أحداث تعيد تشكيل المزاج الجمعي باستمرار، وتبني ذاكرة جماعية لا يمكن تجاوزها في فهم الرأي العام الفلسطيني.
تظهر أدوات الهندسة النفسية في السياق الفلسطيني من خلال السرديات الوطنية التي تُستخدم لبناء خطاب الصمود والتحرر والوحدة، أو أحيانًا لتعزيز الانقسام السياسي.
وتُعد وسائل الإعلام الفلسطينية المختلفة لاعبًا رئيسا في هذا المجال، إذ تعمل على إنتاج وعي مقاوم وصامد، لكنها قد تقع في فخ الخطاب الحزبي الذي يعيد إنتاج التجزئة.
وعلى الجانب الآخر، يمارس الإعلام الإسرائيلي هندسة مضادة للرأي العام الفلسطيني، تعتمد على التخويف، وتشويه الرموز، وبث الإحباط، مستخدمًا أساليب مدروسة من الحرب النفسية تهدف إلى إضعاف الروح المعنوية وخلق فجوة ثقة بين الناس ومؤسساتهم. كما تشكل الرموز الثقافية مثل العلم الفلسطيني، وصور الشهداء، والأغاني الوطنية، محفزات نفسية عالية التأثير تُستخدم في التعبئة الجماهيرية وتعزيز الانتماء والهوية.
وتتجلى الهندسة النفسية للرأي العام بشكل أكثر وضوحًا خلال الأزمات، كما حدث أثناء حرب الابادة على غزة. ففي هذه الظروف، تنشط الحرب النفسية الإسرائيلية عبر الرسائل الرقمية والمرئية التي تستهدف إثارة الخوف وإضعاف المعنويات وتعزيز الانقسام. وفي المقابل، يظهر خطاب فلسطيني مضاد يركز على السرديات الوطنية، وتقديم النماذج البطولية، وتوحيد المشاعر العامة، إضافة إلى حملات الدعم النفسي والمجتمعي التي تسعى إلى تعزيز المرونة النفسية لدى المواطنين ومساعدتهم على تجاوز آثار الصدمة.
إن الرأي العام الفلسطيني، الذي يعيش تحت ضغط نفسي مستمر، يصبح أكثر حساسية للعواطف وأقل اعتمادًا على التحليل العقلاني، مما يجعله أكثر تأثرًا بالسرديات والقصص والمحفزات الرمزية. وهنا يظهر الدور الحيوي لمتخصصي الإرشاد والدعم النفسي في مواجهة آثار الهندسة النفسية السلبية، من خلال حملات التوعية، وتفكيك الإشاعات، وتعزيز المرونة النفسية، وإعادة بناء الثقة المجتمعية، ونشر الخطاب الذي يدعم التوازن النفسي والصحة العامة، وهو ما تقوم به مبادرات وطنية متعددة مثل مراكز الدعم الجامعي والمؤسسات الحقوقية والمبادرات الشبابية.
ورغم أهميتها، تحمل الهندسة النفسية مخاطر حقيقية إذا مورست خارج إطارها الأخلاقي، إذ يمكن أن تتحول إلى أدوات تضليل، وصناعة وعي زائف، وتوجيه غير مشروع للمشاعر، وخلق انقسامات اجتماعية تضر بالوحدة الوطنية والصحة النفسية العامة. ويزداد هذا الخطر في مجتمع يعيش حالة صراع طويل، وهو ما يتطلب مسؤولية مضاعفة من الفاعلين الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين.
وفي الختام، يمكن القول إن الهندسة النفسية للرأي العام في الواقع الفلسطيني ليست مجرد ممارسة إعلامية أو سياسية، بل هي عملية تتشابك فيها عناصر الهوية والانتماء والتجربة التاريخية والضغوط النفسية اليومية. إنها أداة يمكن أن تسهم في بناء صمود جماعي إذا استخدمت بإيجابية ومسؤولية، ويمكن أن تتحول إلى معول هدم إذا وُظّفت في سياقات التحريض والإشاعة والتضليل. والتحدي اليوم يتمثل في تطوير خطاب وطني أخلاقي قادر على تشكيل وعي جمعي واعٍ، يواجه الإشاعات، ويعزز الثقة، ويعيد الاعتبار للقيم الجماعية التي تشكل جوهر التجربة الفلسطينية.
