![]() |
| د. إبراهيم نعيرات |
الكاتب: د. إبراهيم نعيرات
لم يكن موقف إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من مسألة الدولة الفلسطينية انعكاسًا لرؤية أمريكية تقليدية لإدارة الصراع، ولا نتاج مراجعة استراتيجية مستقلة لمعادلات الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، بل جاء تعبيرًا واضحًا عن تبنٍّ شبه كامل للرواية الإسرائيلية، ولا سيما تلك المتعلقة بالمخاوف الأمنية والديموغرافية من قيام دولة فلسطينية ذات سيادة. هذه المخاوف، التي لطالما شكّلت جوهر الخطاب الإسرائيلي المعارض لأي تسوية سياسية حقيقية، جرى نقلها إلى واشنطن بوصفها حقائق ثابتة، لا كافتراضات سياسية قابلة للنقاش أو التقييم.
منذ الأيام الأولى للإدارة، بدا أن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي يُقرأ من منظور ضيق يختزل القضية في معادلة أمنية صرفة. فقد تبنّت إدارة ترامب الرؤية الإسرائيلية التي تعتبر أن قيام دولة فلسطينية مستقلة يقيّد قدرة إسرائيل على التحكم العسكري والجغرافي، ويحدّ من حرية حركتها الأمنية، ويفتح الباب أمام مساءلة قانونية دولية لطالما سعت إلى تفاديها. وبدل التعامل مع هذه المخاوف ضمن إطار سياسي يوازن بين الأمن والحقوق، جرى اعتماد مقاربة تقوم على إدارة المخاطر، لا على معالجة جذور الصراع، ما أدى عمليًا إلى تعطيل أي مسار سياسي ذي معنى.
غير أن البعد الأمني، على أهميته في الخطاب الإسرائيلي، لم يكن وحده الدافع وراء هذا التبنّي الأمريكي. فالعامل الديموغرافي شكّل هاجسًا لا يقل حضورًا وتأثيرًا. إذ إن الاعتراف بحقوق الفلسطينيين السياسية، سواء من خلال قيام دولة مستقلة أو عبر مسار مساواة سياسية حقيقية، يطرح تحديًا جوهريًا لطبيعة إسرائيل كدولة تقوم على تفوّق قومي محدد. هذا القلق الديموغرافي، الذي يدفع باتجاه الفصل الدائم والسيطرة بدل التسوية، وجد في إدارة ترامب شريكًا سياسيًا يتبنّى منطق الحفاظ على “الوقائع القائمة” بدل السعي إلى تغييرها.
وقد انعكس هذا التبنّي في سلسلة من السياسات والإجراءات العملية التي أعادت تعريف الدور الأمريكي في الصراع. فقد جرى التعامل مع الاستيطان لا كعقبة أمام السلام، بل كأمر واقع يمكن شرعنته أو تجاهله. كما أُفرغ مفهوم حلّ الدولتين من مضمونه السياسي، ليُستبدل بخطاب غامض يفتقر إلى أي التزام واضح بالسيادة الفلسطينية. وفي هذا السياق، رُوّج لما عُرف بـ«السلام الاقتصادي»، حيث جرى اختزال القضية الفلسطينية في تحسينات معيشية ومشاريع تنموية، مع تغييب كامل لمسألة الحقوق الوطنية والتمثيل السياسي.
بهذه المقاربة، تحوّل الأمن والديموغرافيا من عناصر ينبغي معالجتها ضمن حل سياسي شامل، إلى ذرائع تُستخدم لتبرير استمرار السيطرة وتعطيل الحلول. ولم يعد الاحتلال يُنظر إليه كمشكلة بحد ذاته، بل كأداة لإدارة الاستقرار وفق الرؤية الإسرائيلية، وهو ما شكّل انحرافًا واضحًا عن الخطاب الأمريكي التقليدي، حتى في أكثر مراحله انحيازًا.
بعد أحداث السابع من أكتوبر، أُعيد توظيف هذه التخوّفات الإسرائيلية بالطريقة ذاتها، لتأكيد السردية القائلة إن السيطرة الكاملة هي الضمانة الوحيدة للأمن، وإن أي كيان فلسطيني مستقل يشكّل تهديدًا وجوديًا. غير أن الوقائع الميدانية أثبتت أن هذا المنطق لم يمنع الانفجار، بل أسهم في صنع شروطه. فغياب الأفق السياسي، واستمرار الاحتلال، وإدارة الصراع بدل حله، كلها عوامل راكمت التوتر وأنتجت لحظة الانفجار، لا العكس.
في المحصلة، لم تكن خشية إدارة ترامب من الدولة الفلسطينية نابعة من ضعف هذا الكيان المحتمل، بل من قوته الرمزية والسياسية. فقيام دولة فلسطينية ذات سيادة يعيد طرح أسئلة جوهرية حول الأمن، والديموغرافيا، والشرعية، وحدود القوة. وتحت وطأة هذه الأسئلة، اختارت الإدارة الأمريكية تبنّي رؤية ترى في الاحتلال حلًا مؤقتًا طويل الأمد، وفي الحقوق خطرًا ينبغي احتواؤه.
غير أن التاريخ أثبت أن تجاهل الحقوق لا يوفّر الأمن، وأن إدارة الصراع لا تصنع استقرارًا دائمًا. فالدولة الفلسطينية لم تكن يومًا جوهر المشكلة، بل غيابها. وأي مقاربة لا تنطلق من هذا الفهم، ستظل عاجزة عن إنتاج سلام حقيقي، مهما امتلكت من أدوات القوة والنفوذ.
لم يكن موقف إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من مسألة الدولة الفلسطينية انعكاسًا لرؤية أمريكية تقليدية لإدارة الصراع، ولا نتاج مراجعة استراتيجية مستقلة لمعادلات الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، بل جاء تعبيرًا واضحًا عن تبنٍّ شبه كامل للرواية الإسرائيلية، ولا سيما تلك المتعلقة بالمخاوف الأمنية والديموغرافية من قيام دولة فلسطينية ذات سيادة. هذه المخاوف، التي لطالما شكّلت جوهر الخطاب الإسرائيلي المعارض لأي تسوية سياسية حقيقية، جرى نقلها إلى واشنطن بوصفها حقائق ثابتة، لا كافتراضات سياسية قابلة للنقاش أو التقييم.
منذ الأيام الأولى للإدارة، بدا أن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي يُقرأ من منظور ضيق يختزل القضية في معادلة أمنية صرفة. فقد تبنّت إدارة ترامب الرؤية الإسرائيلية التي تعتبر أن قيام دولة فلسطينية مستقلة يقيّد قدرة إسرائيل على التحكم العسكري والجغرافي، ويحدّ من حرية حركتها الأمنية، ويفتح الباب أمام مساءلة قانونية دولية لطالما سعت إلى تفاديها. وبدل التعامل مع هذه المخاوف ضمن إطار سياسي يوازن بين الأمن والحقوق، جرى اعتماد مقاربة تقوم على إدارة المخاطر، لا على معالجة جذور الصراع، ما أدى عمليًا إلى تعطيل أي مسار سياسي ذي معنى.
غير أن البعد الأمني، على أهميته في الخطاب الإسرائيلي، لم يكن وحده الدافع وراء هذا التبنّي الأمريكي. فالعامل الديموغرافي شكّل هاجسًا لا يقل حضورًا وتأثيرًا. إذ إن الاعتراف بحقوق الفلسطينيين السياسية، سواء من خلال قيام دولة مستقلة أو عبر مسار مساواة سياسية حقيقية، يطرح تحديًا جوهريًا لطبيعة إسرائيل كدولة تقوم على تفوّق قومي محدد. هذا القلق الديموغرافي، الذي يدفع باتجاه الفصل الدائم والسيطرة بدل التسوية، وجد في إدارة ترامب شريكًا سياسيًا يتبنّى منطق الحفاظ على “الوقائع القائمة” بدل السعي إلى تغييرها.
وقد انعكس هذا التبنّي في سلسلة من السياسات والإجراءات العملية التي أعادت تعريف الدور الأمريكي في الصراع. فقد جرى التعامل مع الاستيطان لا كعقبة أمام السلام، بل كأمر واقع يمكن شرعنته أو تجاهله. كما أُفرغ مفهوم حلّ الدولتين من مضمونه السياسي، ليُستبدل بخطاب غامض يفتقر إلى أي التزام واضح بالسيادة الفلسطينية. وفي هذا السياق، رُوّج لما عُرف بـ«السلام الاقتصادي»، حيث جرى اختزال القضية الفلسطينية في تحسينات معيشية ومشاريع تنموية، مع تغييب كامل لمسألة الحقوق الوطنية والتمثيل السياسي.
بهذه المقاربة، تحوّل الأمن والديموغرافيا من عناصر ينبغي معالجتها ضمن حل سياسي شامل، إلى ذرائع تُستخدم لتبرير استمرار السيطرة وتعطيل الحلول. ولم يعد الاحتلال يُنظر إليه كمشكلة بحد ذاته، بل كأداة لإدارة الاستقرار وفق الرؤية الإسرائيلية، وهو ما شكّل انحرافًا واضحًا عن الخطاب الأمريكي التقليدي، حتى في أكثر مراحله انحيازًا.
بعد أحداث السابع من أكتوبر، أُعيد توظيف هذه التخوّفات الإسرائيلية بالطريقة ذاتها، لتأكيد السردية القائلة إن السيطرة الكاملة هي الضمانة الوحيدة للأمن، وإن أي كيان فلسطيني مستقل يشكّل تهديدًا وجوديًا. غير أن الوقائع الميدانية أثبتت أن هذا المنطق لم يمنع الانفجار، بل أسهم في صنع شروطه. فغياب الأفق السياسي، واستمرار الاحتلال، وإدارة الصراع بدل حله، كلها عوامل راكمت التوتر وأنتجت لحظة الانفجار، لا العكس.
في المحصلة، لم تكن خشية إدارة ترامب من الدولة الفلسطينية نابعة من ضعف هذا الكيان المحتمل، بل من قوته الرمزية والسياسية. فقيام دولة فلسطينية ذات سيادة يعيد طرح أسئلة جوهرية حول الأمن، والديموغرافيا، والشرعية، وحدود القوة. وتحت وطأة هذه الأسئلة، اختارت الإدارة الأمريكية تبنّي رؤية ترى في الاحتلال حلًا مؤقتًا طويل الأمد، وفي الحقوق خطرًا ينبغي احتواؤه.
غير أن التاريخ أثبت أن تجاهل الحقوق لا يوفّر الأمن، وأن إدارة الصراع لا تصنع استقرارًا دائمًا. فالدولة الفلسطينية لم تكن يومًا جوهر المشكلة، بل غيابها. وأي مقاربة لا تنطلق من هذا الفهم، ستظل عاجزة عن إنتاج سلام حقيقي، مهما امتلكت من أدوات القوة والنفوذ.
